الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الثالث : الحقوق المشتركة ، كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء ، وإلزام النساء أحكام العدد ، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء ، وأصحاب البهائم بتعهدها ، وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق ، وذكر في المنكرات أن من يغير هيئة عبادة ، كجهره في صلاة سرية وعكسه ، وزيادة في الأذان ، يمنعه وينكر عليه ، ومن تصدى للتدريس ، أو الوعظ وليس هو من أهله ، ولا يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف ، أنكر عليه المحتسب ، وشهر أمره لئلا يغتر به ، وإذا رأى رجلا واقفا مع امرأة في شارع يطرقه الناس ، لم ينكر عليه ، وإن كان في طريق خال ، فهو موضع ريبة ، فينكر ويقول : وإن كانت محرما لك ، فصنها عن مواقف الريب ، ولا ينكر في حقوق الآدميين ، كتعديه في جدار جاره إلا باستعداء صاحب الحق ، وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة ، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم ، وقصروا في النظر والخصومات . والسوقي الذي يختص بمعاملة النساء تختبر أمانته ، فإن ظهرت منه خيانة ، منع من معاملتهن ، وهذا باب لا تتناهى صوره .

                                                                                                                                                                        قلت : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية بإجماع الأمة ، [ ص: 219 ] وهو من أعظم قواعد الإسلام ، ولا يسقط عن المكلف لكونه يظن أنه لا يفيد ، أو يعلم بالعادة أنه لا يؤثر كلامه ، بل يجب عليه الأمر والنهي ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، وليس الواجب عليه أن يقبل منه ، بل واجبه أن يقول كما قال الله تعالى : ( ما على الرسول إلا البلاغ ) قالوا : ومن أمثلته : أن يرى مكشوف بعض عورته في حمام ونحو ذلك ، ولا يشترط في الآمر والناهي كونه ممتثلا ما يأمر به ، مجتنبا ما ينهى عنه ، بل عليه الأمر والنهي في حق نفسه ، وفي حق غيره ، فإن أخل بأحدهما ، لم يجز الإخلال بالآخر ، ولا يختص الأمر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب ، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين وواجب عليهم ، قال إمام الحرمين : والدليل عليه إجماع المسلمين ، فإن غير الولاة في الصدر الأول كانوا يأمرون الولاة وينهونهم مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بذلك بغير ولاية ، ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه " قال أصحابنا : وإنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه ، وذلك يختلف بحسب الأشياء ، فإن كان من الواجبات الظاهرة ، والمحرمات المشهورة ، كالصلاة والصيام والزنى والخمر ونحوها ، فكل المسلمين علماء بها ، وإن كان من دقائق الأقوال والأفعال ، ومما يتعلق بالاجتهاد ، لم يكن للعوام الابتداء بإنكاره ، بل ذلك للعلماء ، ويلتحق بهم من أعلمه العلماء بأن ذلك مجمع عليه ، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره ، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه ؛ لأن كل مجتهد مصيب ، أو المصيب واحد ولا نعلمه ، ولا إثم على المخطئ ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف ، فهو حسن محبوب ، ويكون برفق ؛ لأن العلماء متفقون على استحباب الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة [ ص: 220 ] ثابتة ، أو وقوع في خلاف آخر ، وذكر الماوردي خلافا في أن من قلده السلطان الحسبة ، هل له حمل الناس على مذهبه فيما اختلف العلماء فيه إذا كان المحتسب مجتهدا أم ليس له تغيير ما كان على مذهب غيره ؟ والأصح أنه ليس له تغييره لما ذكرناه ، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع ، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه ، وإنما ينكرون ما خالف نصا ، أو إجماعا ، أو قياسا جليا .

                                                                                                                                                                        وأما صفة النهي عن المنكر ومراتبه ، فضابطه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه " فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه ، ولا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد ، ولا تكفي كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان ، وقد سبق في كتاب الغصب ، صفة كسر الملاهي وجملة متعلقة بالمنكرات ، وينبغي أن يرفق في التغيير بالجاهل وبالظالم الذي يخاف شره ، فإن ذلك أدعى إلى قبول قوله ، وإزالة المنكر ، وإن قدر على من يستعين به ولم يمكنه الاستقلال ، استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب ، فإن عجز ، رفع ذلك إلى صاحب الشوكة ، وقد تقدم هذا في كتاب الصيال ، فإن عجز عن كل ذلك ، فعليه أن يكرهه بقلبه ، قال أصحابنا وغيرهم : وليس للآمر والناهي البحث والتنقيب والتجسس واقتحام الدور بالظنون ، بل إن رأى شيئا غيره ، قال الماوردي : فإن غلب على ظن المحتسب أو غيره استسرار قوم بالمنكر بأمارة وآثار ظهرت ، فذلك ضربان ، أحدهما : أن يكون فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها ، بأن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله ، أو بامرأة ليزني بها ، فيجوز التجسس والإقدام على الكشف والإنكار ، والثاني : ما قصر عن هذه الرتبة ، فلا يجوز فيه الكشف والتجسس . [ ص: 221 ] واعلم أنه لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بأن يخاف منه على نفسه أو ماله ، أو يخاف على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية