الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في السلام فيه مسائل :

                                                                                                                                                                        الأولى : ابتداء السلام سنة مؤكدة ، فإن سلم على واحد ، وجب عليه الرد ، وإن سلم على جماعة ، فالرد في حقهم فرض كفاية ، فإن رد أحدهم ، سقط الحرج عن الباقين ، وإن رد الجميع ، كانوا مؤدين للفرض ، سواء ردوا معا أو متعاقبين ، فإن امتنعوا كلهم ، أثموا ، ولو رد غير من سلم عليه ، لم يسقط الفرض عمن سلم عليه ، ويكون ابتداء السلام أيضا سنة على الكفاية ، فإذا لقي جماعة آخرين ، فسلم أحد هؤلاء على هؤلاء ، كفى ذلك في إقامة أصل السنة .

                                                                                                                                                                        الثانية : لا بد من ابتداء السلام ورده من رفع الصوت بقدر ما يحصل به الإسماع ، ويجب أن يكون الرد متصلا بالسلام الاتصال [ ص: 227 ] المشترط بين الإيجاب والقبول في العقود . قال المتولي : لو ناداه من وراء حائط أو ستر ، وقال : السلام عليك يا فلان ، أو كتب كتابا وسلم عليه فيه ، أو أرسل رسولا فقال : سلم على فلان ، فبلغه الكتاب والرسالة ، لزمه الرد ، ولو سلم على أصم ، أتى باللفظ لقدرته عليه ، ويشير باليد ليحصل الإفهام ، فإن لم يضم الإشارة إلى اللفظ ، لم يستحق الجواب ، وكذا في جواب سلام الأصم ، يجب الجمع بين اللفظ والإشارة ، وسلام الأخرس بالإشارة معتد به ، وكذا رده .

                                                                                                                                                                        الثالثة : صيغته ، السلام عليكم ، أو سلام عليكم ، قال الإمام : وكذا لو قال : عليكم السلام ، وقال المتولي : عليكم السلام ليس بتسليم .

                                                                                                                                                                        قلت : الصحيح أنه تسليم يجب فيه الرد ، كما قال الإمام ، وممن قال أيضا إنه تسليم أبو الحسن الواحدي من أصحابنا ، ولكن يكره الابتداء به ، نص على كراهته الغزالي في " الإحياء " ويدل عليه الحديث الصحيح في سنن أبي داود والترمذي عن أبي جري بضم الجيم تصغير جرو - رضي الله عنه - ، قال : قلت : عليك السلام يا رسول الله ، قال : " لا تقل : عليك السلام ، فإن عليك السلام تحية الموتى " . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ويستحب مراعاة صيغة الجمع ، وإن كان المسلم عليه واحدا خطابا ولملائكته ، ولو قال : السلام عليك وترك صيغة الجمع ، حصل أصل السنة ، وصيغة الجواب ، وعليكم السلام ، أو وعليك السلام للواحد ، فلو ترك حرف العطف فقال : عليكم السلام ، قال الإمام : يكفي ذلك ، ويكون جوابا ، والأفضل أن يدخل الواو ، وقال المتولي : ليس بجواب .

                                                                                                                                                                        [ ص: 228 ] قلت : الصحيح المنصوص وقول الأكثرين أنه جواب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو قال المجيب : وعليكم ، قال الإمام : الرأي عندنا أنه لا يكون جوابا ، فإنه ليس فيه تعرض للسلام ، ومنهم من جعله جوابا للعطف . ولو قال : عليكم بغير واو ، فليس بجواب قطعا ، وكمال السلام أن يقول : السلام عليكم ورحمة الله ، وكمال الرد : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .

                                                                                                                                                                        قلت : قد قال الماوردي وغيره : إن الأفضل في الابتداء : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وفيه حديث حسن ، ولو قال المجيب : السلام عليكم ، أو سلام عليكم ، كان جوابا ، والألف واللام أفضل . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو تلاقى رجلان فسلم كل واحد على صاحبه ، وجب على كل واحد منهما جواب الآخر ، ولا يحصل الجواب بالسلام ، وإن ترتب السلامان ، قاله المتولي .

                                                                                                                                                                        قلت : قد قاله أيضا شيخه القاضي حسين ، لكن أنكره الشاشي فقال : هذا يصلح للجواب ، فإن كان أحدهما بعد الآخر كان جوابا ، وإن كانا دفعة ، لم يكن جوابا ، هذا كلام الشاشي ، وتفصيله حسن وينبغي أن يجزم به . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الرابعة : لو سلم عليه جماعة ، فقال : وعليكم السلام ، وقصد الرد عليهم جميعا ، جاز ، وسقط الفرض في حق الجميع ، كما لو صلى على جنائز صلاة واحدة .

                                                                                                                                                                        الخامسة : السنة أن يسلم الراكب على الماشي ، والماشي على [ ص: 229 ] الجالس ، والطائفة القليلة على الكثيرة ، ولا يكره ابتداء الماشي والجالس .

                                                                                                                                                                        قلت : وكذا لا يكره ابتداء الكثيرين بالسلام على القليل ، وإن كان خلاف السنة ، والسنة أن يسلم الصغير على الكبير ، ثم هذا الأدب فيما إذا تلاقيا ، أو تلاقوا في الطريق ، فأما إذا ورد على قاعد ، أو قعود ، فإن الوارد يبدأ ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، قليلا أو كثيرا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        السادسة : يكره أن يخص طائفة من الجمع بالسلام .

                                                                                                                                                                        السابعة : لا يلزم الصبي جواب السلام ؛ لأنه ليس مكلفا ، ولو سلم على جماعة فيهم صبي ، لم يسقط الفرض عنهم بجوابه .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا هو الأصح وبه قطع القاضي والمتولي ، وقال الشاشي : يسقط ، كما يصح أذانه للرجال ويتأدى به الشعار ، وهذا كالخلاف في سقوط الفرض بصلاته على الميت . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو سلم صبي على بالغ ، ففي وجوب الرد عليه وجهان بناء على صحة إسلامه .

                                                                                                                                                                        قلت : كذا ذكره القاضي والمتولي ، والصحيح وجوب الرد ، قال الشاشي : هذا البناء فاسد ، وهو كما قال ، واعلم أن السلام على الصبيان سنة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثامنة : سلام النساء على النساء ، كسلام الرجال على الرجال ، ولو سلم رجل على امرأة أو عكسه ، فإن كان بينهما زوجية [ ص: 230 ] أو محرمية ، جاز ووجب الرد ، وإلا فلا يجب إلا أن تكون عجوزا خارجة عن مظنة الفتنة .

                                                                                                                                                                        قلت : وجاريته كزوجته ، وقوله : جاز ، ناقص ، والصواب أنه سنة كسلام الرجل على الرجل ، قاله أصحابنا ، قال المتولي : ولو سلم على شابة ، لم يجز لها الرد ، ولو سلمت ، كره له الرد عليها ، ولو كان النساء جمعا ، فسلم عليهن الرجل ، جاز ، للحديث الصحيح في ذلك . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التاسعة : في السلام بالعجمية ثلاثة أوجه ، ثالثها : إن قدر على العربية ، لم يجزئه .

                                                                                                                                                                        قلت : الصواب صحة سلامه بالعجمية إن كان المخاطب يفهمها ، سواء قدر على العربية أم لا ، ويجب الرد ؛ لأنه يسمى تحية وسلاما . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ومن لا يستقيم نطقه بالسلام ، يسلم كيف أمكنه .

                                                                                                                                                                        العاشرة : في استحباب السلام على الفساق ، ووجوب الرد على المجنون والسكران إذا سلما ، وجهان ، ولا يجوز ابتداء أهل الذمة بالسلام ، فلو سلم على من لم يعرفه ، فبان ذميا ، استحب أن يسترد سلامه ، بأن يقول : استرجعت سلامي ، تحقيرا له ، وله أن يحيي الذمي بغير السلام ، بأن يقول : هداك الله ، أو أنعم الله صباحك ، ولو سلم عليه ذمي ، لم يزد في الرد على قوله : وعليك .

                                                                                                                                                                        قلت : ما ذكره من استحباب استرداد السلام من الذمي ، ذكره المتولي ، ونقله عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، وقوله : أن يحيي الذمي بغير السلام ، ذكره المتولي ، وهذا إذا احتاج إليه لعذر ، فأما من غير حاجة ، فالاختيار أن لا يبتدئه بشيء من الإكرام أصلا ، فإن ذلك بسط [ ص: 231 ] له وإيناس وملاطفة وإظهار ود ، وقد قال الله تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) وأما المبتدع ، فالمختار أنه لا يبدأ بسلام إلا لعذر ، أو خوفا من مفسدة ، ولو مر على جماعة فيهم مسلمون ، أو مسلم وكفار ، فالسنة أن يسلم ويقصد المسلمين أو المسلم ، ولو كتب كتابا إلى مشرك ، وكتب فيه سلاما ، فالسنة أن يكتب كما كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل : " سلام على من اتبع الهدى " . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الحادية عشرة : قال المتولي : ما يعتاده الناس من السلام عند القيام ومفارقة القوم دعاء وليس بتحية ، فيستحب الجواب عنه ، ولا يجب .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الذي قاله المتولي قاله شيخه القاضي حسين ، وقد أنكره الشاشي ، فقال : هذا فاسد ؛ لأن السلام سنة عند الانصراف ، كما هو سنة عند القدوم ، واستدل بالحديث الصحيح في سنن أبي داود والترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم ، فإذا أراد أن يقوم فليسلم ، فليست الأولى بأحق من الآخرة " قال الترمذي : حديث حسن . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثانية عشرة : قال المتولي : يستحب لمن دخل دار نفسه أن يسلم على أهله ، ولمن دخل مسجدا أو بيتا ليس فيه أحد أن يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

                                                                                                                                                                        قلت : يستحب أن يسمي الله تعالى قبل دخوله ، ويدعو ، ثم يسلم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثالثة عشرة : من سلم في حال لا يستحب فيها السلام ، لم [ ص: 232 ] يستحق جوابا ، فمن تلك الأحوال ، أنه لا يسلم على من يقضي حاجته ، ولا على من في الحمام ، قال الشيخ أبو محمد والمتولي : لا يسلم على مشتغل بالأكل ، ورأى الإمام حمل ذلك على ما إذا كانت اللقمة في فمه وكان يمضي زمان في المضغ والابتلاع ، ويعسر الجواب في الحال ، أما إذا سلم بعد الابتلاع وقبل وضع لقمة أخرى ، فلا يتوجه المنع ، وأما المصلي ، فأطلق الغزالي أنه لا يسلم عليه ، ولم يمنعه المتولي لكن قال : إذا سلم عليه لم يرد عليه حتى يفرغ ، ويجوز أن يجيب في الصلاة بالإشارة ، نص عليه في القديم ، وقيل : يجب ، وقيل : يجب الرد باللفظ بعد الفراغ ، والصحيح أنه لا يجب الرد مطلقا ، فإن قال في الصلاة : عليكم السلام ، بطلت ، وإن قال : عليهم السلام ، لم تبطل وقد سبق هذا في كتاب الصلاة ، ولا منع من السلام على من هو في مساومة أو معاملة .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية