الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إذا منعته الزحمة في الجمعة السجود على الأرض مع الإمام في الركعة الأولى ، نظر ، إن أمكنه أن يسجد على ظهر إنسان ، أو رجله ، لزمه ذلك ، على الصحيح الذي قطع به الجمهور . وفيه وجه شاذ : يتخير ، إن شاء سجد على الظهر ، وإن شاء صبر ليسجد على الأرض . ثم قال جماهير الأصحاب : إنما يسجد على ظهر غيره ، إذا قدر على رعاية هيئة الساجدين ، بأن يكون على موضع مرتفع . فإن لم يكن ، فالمأتي به ليس بسجود . وفيه وجه ضعيف : أنه لا يضر ارتفاع الظهر ، والخروج عن هيئة الساجدين للعذر . وإذا تمكن من السجود على ظهر غيره فلم يسجد ، فهو تخلف بغير عذر على الأصح . وعلى الثاني : بعذر . ولو لم يتمكن من السجود على الأرض ولا على الظهر ، فأراد أن يخرج عن المتابعة لهذا العذر ، ويتمها ظهرا ، ففي صحتها قولان ، لأنها ظهر قبل فوات الجمعة . قال إمام الحرمين : ويظهر منعه من الانفراد ، لأن إقامة الجمعة واجبة ، فالخروج منها عمدا مع توقع إدراكها [ ص: 19 ] لا وجه له . فأما إذا دام على المتابعة ، فما يصنع ؟ فيه أوجه ، الصحيح : أنه ينتظر التمكن . والثاني : يومئ السجود أقصى ما يمكنه كالمريض . والثالث : يتخير بينهما . فإذا قلنا : بالصحيح ، فله حالان . أحدهما : يتمكن من السجود قبل ركوع الإمام في الثانية . والثاني : لا يتمكن إلى ركوعه . ففي الحال الأول يسجد عند تمكنه ، فإذا فرغ من سجوده ، فللإمام أحوال أربعة .

                                                                                                                                                                        أحدها : أن يكون بعد في القيام ، فيفتتح القراءة ، فإن أتمها ركع معه ، وجرى على متابعته ، ولا بأس بهذا التخلف للعذر . وإن ركع الإمام قبل إتمامها ، فهل له حكم المسبوق ؟ وجهان . وقد بينا حكم المسبوق في باب ( صلاة الجماعة ) .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما عند الجمهور : له حكمه . - والله أعلم -

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : للإمام أن يكون في الركوع . فالأصح عند الجمهور : أنه يدع القراءة ، ويركع معه ، لأنه لم يدرك محلها ، فسقطت عنه كالمسبوق . والثاني : يلزمه قراءتها ، ويسعى وراء الإمام ، وهو متخلف بعذر .

                                                                                                                                                                        الحال الثالث : أن يكون فارغا من الركوع ولم يسلم ، فإن قلنا في الحال الثاني : هو كالمسبوق ، تابع الإمام فيما هو فيه ، ولا يكون محسوبا له ، بل يقوم عند سلام الإمام إلى ركعة ثانية . وإن قلنا : ليس هو كالمسبوق ، اشتغل بترتيب صلاة نفسه . وقيل : يتعين متابعة الإمام قطعا .

                                                                                                                                                                        الحال الرابع : أن يكون الإمام متحللا من صلاته ، فلا يكون مدركا للجمعة ، لأنه لم يتم له ركعة قبل سلام الإمام ، بخلاف ما لو رفع رأسه من السجود ، ثم سلم الإمام في الحال . قال إمام الحرمين : وإذا جوزنا له التخلف ، وأمرناه بالجريان على ترتيب صلاة نفسه ، فالوجه أن يقتصر على الفرائض ، فعساه يدرك الإمام ، ويحتمل أن يجوز الإتيان بالسنن مع الاقتصار على الوسط منها . الحال الثاني للمأموم : أن لا يتمكن من السجود حتى ركع الإمام في الثانية ، وفيه [ ص: 20 ] قولان . أظهرهما : يتابعه فيركع معه . والثاني : لا يركع معه بل يسجد ، ويراعي ترتيب صلاة نفسه . فإن قلنا بالأول ، فتارة يوافق ما أمرناه ، وتارة يخالف . فإن وافق وركع معه ، فأي الركوعين يحتسب ؟ وجهان . وقيل : قولان . أصحهما عند الأصحاب : بالركوع الأول . والثاني : بالثاني . فإن قلنا : بالثاني ، حصلت له الركعة الثانية بكمالها . فإذا سلم الإمام ، ضم إليها أخرى ، وتمت جمعة بلا خلاف . وإن قلنا : بالأول ، حصلت ركعة ملفقة من ركوع الأولى ، وسجود الثانية . وفي إدراك الجمعة بالملفقة ، وجهان . أصحهما : تدرك . أما إذا خالف ما أمرناه ، فاشتغل بالسجود وترتيب نفسه ، فإن فعل ذلك مع علمه بأن واجبه المتابعة ، ولم ينو مفارقته ، بطلت صلاته ، ويلزمه الإحرام بالجمعة إن أمكنه إدراك الإمام في الركوع . وإن نوى مفارقته ، فقد أخرج نفسه عن المتابعة بغير عذر . وفي بطلان الصلاة به ، قولان سبقا . فإن لم تبطل ، لم تصح جمعته . وفي صحة ظهره خلاف مبني على أن الجمعة إذا تعذر إتمامها ، هل يجوز إتمامها ظهرا ؟ وعلى أن الظهر هل تصح قبل فوات الجمعة ؟ وإن فعل ذلك ناسيا أو جاهلا ، فما أتى به من السجود ، لا يعتد به ، ولا تبطل صلاته . ثم إن فرغ والإمام بعد في الركوع ، لزمه متابعته . فإن تابعه وركع معه ، فالتفريع كما سبق لو لم يسجد ، وإن لم يركع معه ، أو كان الإمام فرغ من الركوع ، نظر ، إن راعى ترتيب نفسه ، بأن قام بعد السجدتين ، وقرأ ، وركع ، وسجد ، فالمفهوم من كلام الأكثرين أنه لا يعتد له بشيء مما يأتي به على غير المتابعة . وإذا سلم الإمام ، سجد سجدتين لتمام الركعة ، ولا يكون مدركا للجمعة ، لأن على هذا القول الذي عليه التفريع ، نأمره بالمتابعة بكل حال . وكما لا يحسب له السجود والإمام راكع ، لكون فرضه المتابعة ، وجب أن لا يحسب والإمام في ركن بعد الركوع . وقال الصيدلاني ، وإمام الحرمين ، والغزالي : إذا فعل هذا المذكور ، تم له منهما جميعا ركعة ، لكن فيها نقصانان . أحدهما : التلفيق ، فإن ركوعها من الأولى ، وسجودها من [ ص: 21 ] الثانية ، وفي الملفقة الخلاف . والثاني : نقصها بالقدوة الحكمية ، فإنه لم يتابع الإمام في معظم ركعته متابعة حسية ، بل حكمية . وفي إدراك الجمعة بالركعة الحكمية ، وجهان ، كالملفقة ، أصحهما : الإدراك ، وليس الخلاف في مطلق القدوة الحكمية ، فإن السجود في حال قيام الإمام ، ليس على حقيقة المتابعة ، ولا خلاف أن الجمعة تدرك به . هذا كله إذا جرى على ترتيب نفسه بعد فراغه من السجدتين اللتين لم يعتد بهما . فأما إذا فرغ منهما والإمام ساجد ، فتابعه في سجدتيه ، فهذا هو الذي نأمره به في هذه الحالة على هذا القول ، فتحسبان له ، ويكون الحاصل ركعة ملفقة ، وإن وجد الإمام في التشهد ، وافقه . فإذا سلم ، سجد سجدتين وتمت له الركعة ، ولا جمعة له ، لأنه لم يتم له ركعة والإمام في الصلاة . وكذا يفعل لو وجده قد سلم . هذا كله إذا قلنا : يتابع الإمام . أما إذا قلنا : لا يتابعه بل يسجد ويراعي ترتيب نفسه ، فله حالان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : أن يخالف ما أمرناه ، فيركع مع الإمام . فإن تعمد ، بطلت صلاته ، ويلزمه أن يحرم بالجمعة إن أمكنه إدراك الإمام في الركوع ، وإن كان ناسيا ، أو جاهلا يعتقد أن الواجب عليه الركوع مع الإمام ، لم تبطل صلاته ، ولم يعتد بركوعه . فإذا سجد معه بعد الركوع ، حسبت له السجدتان على الصحيح ، وعلى الشاذ لا يعتد بهما . فعلى الصحيح تحصل ركعة ملفقة . وفي الإدراك بها الوجهان .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يوافق ما أمرناه فيسجد ، فهذه قدوة حكمية . وفي الإدراك بها ، الوجهان . فإذا فرغ من السجود ، فللإمام حالان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : أن يكون فارغا من الركوع ، إما في السجود ، وإما في التشهد ، فوجهان . أحدهما : يجري على ترتيب نفسه ، فيقوم ، ويقرأ ، ويركع . وأصحهما : يلزمه متابعة الإمام فيما هو فيه ، فإذا سلم الإمام ، اشتغل بتدارك ما عليه ، وبهذا [ ص: 22 ] قطع كثير من أصحابنا العراقيين وغيرهم . فعلى هذا ، لو كان الإمام عند فراغه من السجود قد هوى للسجود فتابعه ، فقد والى بين أربع سجدات : فهل المحسوب لإتمام الركعة الأولى ، السجدتان الأوليان ، أم الأخريان ؟ وجهان . أصحهما : الأوليان . والثاني : الأخريان . فعلى هذا ، يعود الخلاف في الملفقة .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : للإمام أن يكون راكعا بعد . فهل عليه متابعته ، وتسقط عنه القراءة كالمسبوق ؟ أو يشتغل بترتيب صلاة نفسه فيقرأ ؟ وجهان كما ذكرنا تفريعا على القول الأول . فعلى الأول ، يسلم معه ، وتتم جمعته . وعلى الثاني : يقرأ ويسعى ليلحقه ، وهو مدرك للجمعة .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية