الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        المسألة الثانية : في وقت ملك الغانمين الغنيمة ثلاثة أوجه ، أصحها : لا يملكون إلا بالقسمة ، لكن لهم أن يتملكوا بين الحيازة والقسمة ، لأنهم لو ملكوا لم يصح إعراضهم ، كمن احتطب ، ولأن للإمام أن يخص كل طائفة بنوع من المال ، ولو ملكوا ، لم يصح إبطال حقهم عن نوع بغير رضاهم ، والثاني : يملكون بالحيازة والاستيلاء التام ، لأن الاستيلاء على ما ليس بمعصوم من المال سبب للملك ، . ولأن ملك الكفار زال بالاستيلاء ، ولو لم يملكوا ، لزال الملك إلى غير مالك ، لكنه ملك ضعيف يسقط بالإعراض ، والثالث : موقوف ، فإن سلمت الغنيمة حتى قسموها ، بان أنهم ملكوا بالاستيلاء ، وإلا فإن تلفت ، أو أعرضوا ، تبينا عدم الملك ، فعلى هذا قال الإمام : لا نقول بان بالقسمة أن حصة كل واحد بعينها صارت ملكه بالاستيلاء ، بل نقول : إذا اقتسموا ، بان أنهم ملكوا الغنيمة ملكا مشاعا ، ثم بالقسمة تميزت الحصص ، وقيل : يتعين بالقسمة أن كل واحد ملك حصته على التعين ، [ ص: 268 ] وهو ضعيف . واعلم أن في كلام الأصحاب تصريحا بأن الغانمين وإن لم يملكوا الغنيمة ، فمن قال منهم : اخترت ملك نصيبي ، ملكه ، وقد ذكرنا هذا في كتاب الزكاة ، فإذا الاعتبار باختيار التملك لا بالقسمة ، وإنما تعتبر القسمة لتضمنها اختيار التملك .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ذكروا هنا وفي كتاب الزكاة أن للإمام أن يقسم الغنيمة قسمة تحكم ، فيخص بعضهم ببعض الأنواع وببعض الأعيان ، وحينئذ فقولنا : تملك بالقسمة ، معناه في غالب الأمر ، وهو إذا رضي الغانم بالقسمة ، أو قبل ما عينه له الإمام ، فأما إذا رد ، فينبغي أن يصح رده ، وذكر البغوي فيه خلافا ، فقال : إذا أفرز الإمام الخمس ، وأفرز نصيب كل واحد منهم ، أو أفرز لكل طائفة شيئا معلوما ، فلا يملكونه قبل اختيار التملك على الأصح ، حتى لو ترك بعضهم حقه ، صرف إلى الباقين .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو سرق بعض الغانمين من الغنيمة قبل إفراز الخمس ، لم يقطع ، حرا كان أو عبدا ، لأن له حقا في خمس الخمس وفي الأخماس الأربعة ، وإن سرق بعد إفراز الخمس ، نظر إن سرق منه ، فلا قطع ، وإن سرق من الأخماس قدر نصيبه أو أكثر ولم تبلغ الزيادة نصابا ، فلا قطع ، وكذا إن بلغته على الأصح ، لأن حقه متعلق بجميع الغنيمة لجواز إعراض الباقين ، فيكون الجميع له ، وعلى كل حال يسترد المسروق ، وإن تلف ، فبدله ، ويجعل في المغنم ، ولو غل من الغنيمة بعض الغانمين ، عزر ، وإن سرق غير الغانمين ، نظر إن كان له في الغانمين ولد أو والد أو عبد ، فهو كسرقة الغانم ، وإلا فإن سرق قبل إفراز الخمس ، فهو كسرقته مال بيت [ ص: 269 ] المال ، لأن فيه مالا لبيت المال ، وإن سرق بعد إفراز الخمس ، فإن سرق من الأخماس الأربعة ، قطع ، وإن سرق من الخمس قبل إخراج خمسه ، أو سرق من خمس المصالح بعد إفرازه ، فهو سرقة مال بيت المال ، وإن سرق من أربعة أخماسه ، لم يقطع إن كان من أهل استحقاقها ، وإلا فيقطع على الأصح ، ووجه المنع أنه يجوز أن يصير منهم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو وطئ أحد الغانمين جارية من الغنيمة قبل القسمة ، فلا حد عليه ، وفي قول قديم ، يحد ، والمشهور الأول ، لأن له شبهة ، لكن يعزر إن كان عالما ، وإن كان جاهلا لقرب عهده بالإسلام نهي عنه ، ويعرف حكمه ، وإذا لم يجب الحد ، وجب المهر ، ثم ينظر إن كان الغانمون محصورين يتيسر ضبطهم ، ففي قدره وجهان ، أحدهما : كل المهر ، والصحيح المنصوص : أنه يغرم منه حصة الخمس وحصة غيره من الغانمين وتسقط حصته ، وفي قول : إن وقعت الجارية في حصة الواطئ ، فلا شيء عليه ، وخرج الإمام وجها أنها إن وقعت في حصة غيره ، وجب له المهر ، والمذهب ما سبق عن المنصوص ، وإن كان الغانمون غير محصورين ، ومعناه أن يعسر ضبطهم لكثرتهم ، نظر إن أفرز الإمام الخمس ، وعين لكل طائفة شيئا ، وكانت الجارية معينة لمخصوصين ، فإن وطئ بعضهم بعد اختيارهم تملكها ، فهذا وطء جارية مشتركة ، فيغرم من المهر قسط شركائه ، وإن وطئ قبل اختيارهم التملك ، فقيل : هو كما بعد الاختيار ، والمذهب أنه كما لو كانوا محصورين في الأصل ، إلا أنه لا يخمس المهر هنا ، بل يوزع عليهم ، فيسقط قسط الواطئ ، ويلزمه قسط الباقين ، وإن لم يفرز الإمام ، ولا عين شيئا ، غرم الواطئ كل المهر ، وضم إلى المغنم ، وقسم بين [ ص: 270 ] الجميع ، فيعود إلى الواطئ حصته ، ولا يكلف الإمام أن يضبطهم ويعرف حصته لما فيه من المشقة بخلاف ما لو كانوا محصورين وسهل الضبط ، قال الإمام : وليكن هذا الذي ذكره الأصحاب مخصوصا بما إذا طابت نفس الواطئ بغرم الجميع ، فإن قال : أسقطوا حصتي ، فلا بد من إجابته .

                                                                                                                                                                        قلت : ظاهر كلام الأصحاب خلاف قول الإمام ، ويحتمل أخذ هذا القدر منه وإن كان يستحقه للمصلحة العامة والمشقة الظاهرة ، ولئلا يقدم بعض المستحقين في الإعطاء على بعض - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        أما إذا أحبلها ، فحكم الحد والمهر ما ذكرنا ، ويزيد أمور . منها : الاستيلاد ، فإن كان موسرا ، ففي نفوذه في نصيبه طريقان ، المذهب أنه لا ينفذ ، وبه قطع العراقيون وكثير من غيرهم ، فعلى هذا إن ملك الجارية بسهمه ، أو بسبب آخر في وقت ، ففي نفوذ الاستيلاد قولان يطردان في نظائره ، الأظهر : النفوذ ، وبه قطع البغوي ، وقال صاحب " الحاوي " : إن كانوا محصورين ، ولم يغنموا غير تلك الجارية ، نفذ الاستيلاد في حصته قطعا بخلاف ما إذا كان في الغنيمة غيرها ، فإنه يحتمل أن يجعل الإمام الجارية لغيره ، وإذا ثبت استيلاد نصيبه ، سرى ليساره إلى الباقي ، وهل تحصل السراية بنفس العلوق ، أم بأداء قيمة نصيب الشريك ؟ قولان موضعهما كتاب العتق ، قال الإمام والغزالي : ويحصل اليسار بحصته من المغنم لغيرها ، فإن لم تف حصته من غير تلك الجارية بالقيمة ، سرى بقدر الحصة ، وكان يمكن أن يخرج ذلك على أن الملك في الغنيمة هل يحصل قبل القسمة ؟ إن قلنا : لا ، لم [ ص: 271 ] يكن موسرا يدل عليه أن الإمام ذكر أن الحكم بغناه موقوف على أن لا يعرض ويستقر ملكه ، فإن أعرض ، تبينا أنه لم يكن غنيا ، ولا تقول : حق السراية يلزمه أن يتملك ، لأن التملك كابتداء كسب ، ومتى حكمنا بالاستيلاد في الحال ، أو بعد وقوعه في حصته ، لزمه القيمة ، ثم هو في سقوط حصته ، وأخذ الجميع بحسب انحصار القوم ، وعدم انحصارهم على ما ذكرنا في المهر ، وإن لم نحكم بالاستيلاد ، فإن تأخرت القسمة حتى وضعت ، جعلت في المغنم ودخلت في القسمة فإن دخلها نقص بالولادة لزمه الأرش ، وأما قبل الوضع ، فهي حامل بحر وبيع الحامل بحر لا يصح على الأصح كما سبق في البيع ، وإذا جعلنا القسمة بيعا ، لم يكن إدخالها في القسمة فهل تقوم عليه وتؤخذ منه قيمتها وتجعل في المغنم لأنه بالإحبال حال بين الغانمين وبينها بيعا وقسمة أم تسلم إليه بحصته إن احتملتها أم يجوز إدخالها في القسمة للضرورة ؟ فيه خلاف ، أما إذا كان معسرا ، فإن كانوا محصورين أو غير محصورين وأفرز الإمام الجارية لطائفة ففي ثبوت الاستيلاد في حصته الخلاف المذكور في حصة الموسر فإن أثبتناه فلا سراية وإن كانوا غير محصورين ولم يفرزها فلا استيلاد في الحال فإن وقعت في حصته ، ثبت الاستيلاد حينئذ ، وإن حصل له بعضها ، ثبت في ذلك البعض .

                                                                                                                                                                        ومنها : الولد ، وهو حر نسيب ، وهل تلزمه قيمته ؟ يبنى على أن الجارية هل تقوم عليه ؟ إن قلنا : نعم ، فلا ، لأنها ملكه حين الولادة ، وإن قلنا : لا ، فنعم ، لأنه منع رقه بوطئه ، ثم حكم قيمة الولد حكم المهر ، هذا إذا كان موسرا وثبت الاستيلاد في كلها ، فإن كان معسرا وثبت في حصته ولم يسر ، فهل ينعقد الولد حرا كله أم قدر حصته حر والباقي رقيق ؟ قولان أو وجهان ، أحدهما : كله حر ، لأن الشبهة تعم [ ص: 272 ] الجارية ، وحرية الولد تثبت بالشبهة وإن لم يثبت الاستيلاد ، ولهذا لو وطئ جارية غيره وهو يظنها أمته أو زوجته الحرة ، انعقد الولد حرا وإن لم يثبت الاستيلاد ، ووجه الثاني أنه تبع للاستيلاد وهو متبعض بخلاف الشبهة فإنها ناشئة من ظن لا يتبعض ، فعلى هذا لو ملك باقي الجارية بعد ذلك بقي الرق فيه ، لأنها علقت في غير ملكه برقيق ، وإن قلنا : جميعه حر ، ففي ثبوت الاستيلاد في باقيها إذا ملكه قولان ، لأنه أولدها حرا في غير ملك ، وهذا الخلاف في تبعيض حرية الولد يجري فيما إذا أولد أحد الشريكين المشتركة وهو معسر ، فإن قلنا : جميعه حر ، لزم المستولد قيمة حصة الشركاء من الولد ، وهذا هو الأصح ، وكذا قاله القاضي أبو الطيب والروياني وغيرهما ، وسواء في ترجيح حرية جميعه استيلاد أحد الغانمين واستيلاد أحد الشريكين ، وسئل القاضي حسين عمن أولد امرأة ، نصفها حر ، ونصفها رقيق بنكاح أو زنى ، كيف حال الولد ؟ فقال : يمكن تخريجه على الوجهين في ولد المشتركة من الشريك المعسر ، ثم استقر جوابه على أنه كالأم حرية ورقا ، قال الإمام : وهذا هو الوجه ، لأنه لا سبب لحريته إلا حرية الأم فيتقدر بها ، ثم ما ذكرناه من ثبوت الاستيلاد في حصة المعسر ، والخلاف في حال الولد موضعه ما إذا انحصر المستحقون ، فإن لم ينحصروا ، فقال البغوي : إن قلنا عند الانحصار : كل الولد حر ، أخذ منه قيمته ، وجعلت في المغنم ، وقسم على الجميع ، وإن قلنا : الحر بعضه ، كان كله هنا رقيقا ، ثم الإمام يجتهد حتى تقع الأم والولد في حصة الواطئ ، فإن وقعا فيها ، فهي أم ولد والولد حر ، وإن وقع البعض ، ثبت الاستيلاد بقدره ، وعتق من الولد بقدر ما يملك ، هذا كلامالبغوي ، ولك أن تقول : قد سبق أن للإمام أن يقسم الغنيمة قسمة تحكم ، ولا يشترط رضى الغانمين ولا الإقراع ، وحينئذ فلا حاجة إلى سعي واجتهاد ، بل [ ص: 273 ] ينبغي أن يقال : يوقعهما في حصته ، أو يوقع بعضهما . وقوله : وعتق من الولد بقدر ما ملك ينبغي أن يجيء فيه الخلاف في أن الولد يعتق كله أو بالحصة ، فلعله فرعه على وجه التبعيض أو أراد أن قدر الحصة يعتق قطعا ، وفي الباقي الخلاف ، وجميع ما ذكرنا إذا كان الاستيلاد قبل القسمة واختيار التملك ، وسواء كان قبل إفراز الخمس أم بعده ، وقبل القسمة بين الغانمين إذا كانت الجارية من الأخماس الأربعة ، فلو كان بعد القسمة وبعد اختيار التملك ، فهو كوطء جاريته أو جارية غيره أو مشتركة ، ولا يخفى حكمه ، ولو كان بعد القسمة وقبل اختيار التملك ، فهو كما قبل القسمة ، وفيه وجه أنهم إن كانوا محصورين ، أو أفرزت الجارية لطائفة محصورين ، فهو كما بعد القسمة واختيار التملك ، وقد سبق نظيره ، ولو وطئ أحدهم بعد إفراز الخمس جارية من الخمس ، فكوطء الأجنبي ، ولو وطئ أجنبي جارية من الخمس ، أو قبل إفراز الخمس ، ففي وجوب الحد وجهان ، أصحهما : يجب ، كوطء جارية بيت المال بخلاف ما لو سرق مال بيت المال ، لأنه يستحق فيه النفقة دون الإعفاف ، والثاني : لا ، لأنه لمصالح المسلمين ، وإن وطئ الأجنبي جارية من الأخماس الأربعة ، حد إلا أن يكون له في الغانمين ولد .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية