الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الركن الرابع : المكان القابل للتقرير بلاد الإسلام حجاز وغيره ، فالحجاز مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها أي : قراها ، قال الإمام : قال الأصحاب : الطائف ووج ، وهو واد بالطائف ، وما يضاف إليهما منسوبة إلى مكة معدودة من أعمالها ، وخيبر من مخاليف المدينة . ثم الحجاز ضربان : حرم مكة وغيره ، أما غيره ، فيمنع الكفار من الإقامة به ، وفي منعهم من الإقامة في الطرق الممتدة في بلاد الحجاز وجهان حكاهما الإمام ، الصحيح وهو مقتضى إطلاق الجمهور : نعم ، لأنها من الحجاز ، والثاني : لا ، لأنها ليست مجتمع الناس ، ولا موضع إقامة ، ولا يمنعون من ركوب بحر الحجاز ، لأنه ليس موضع إقامة ، ويمنعون من الإقامة في سواحله في الجزائر المسكونة في البحر ومتى دخل كافر الحجاز بغير إذن الإمام ، أخرجه وعزره إن علم أنه ممنوع من دخوله ، وإن استأذن في دخوله ، أذن له إن كان في دخوله مصلحة للمسلمين ، كرسالة أو عقد هدنة أو ذمة ، أو حمل متاع يحتاج إليه المسلمون ، وإن كان دخوله لتجارة ليس فيها كثير حاجة للمسلمين ، لم يأذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارته شيئا ، هكذا أطلقه جماعة ، وحكوه [ ص: 309 ] عن النص ، وفي " التهذيب " أنه يشرط عليه شيئا ، وهو إلى رأي الإمام ، ولعله أراد أن قدر المشروط إلى رأي الإمام ، لا أصل الشرط فلا يخالف ما أطلقه غيره .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الاحتمال هو مراده من غير ترديد ، وهو مقتضى عبارته . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولا يمكن من دخل بالإذن أن يقيم أكثر من ثلاثة أيام ، ويشرط عليه ذلك عند الدخول ، ولا يحسب من الثلاثة يوم الدخول والخروج ، ولو كان له ديون ، حصلت بمعاملاته بعد الدخول ، أو من وجه آخر ولم يمكن قبضها في الحال ، أمر أن يوكل مسلما بقبضها ، وأخرج هو ، ولو كان ينتقل من قرية إلى أخرى ويقيم في كل واحدة ثلاثة أيام ، لم يمنع وأما حرم مكة زاده الله شرفا ، فيمنع الكافر من دخوله ، ولو كان مجتازا ، فإن جاء برسالة والإمام في الحرم ، بعث إليه من يسمعه ، ثم يخبر الإمام ، أو خرج إليه الإمام ويتعين عليه ذلك إذا قال الكافر : لا أؤدي الرسالة إلا مشافهة ، وإن جاء كافر ليناظره ليسلم ، خرج إليه من يناظره ، وإن حمل ميرة ، خرج إليه الراغبون في الشراء ، وإن كان لذمي مال في الحرم ، أو دين ، وكل مسلما ليقبضه ويسلمه إليه ، وإن بذل الكافر على الدخول مالا ، لم يجبه إليه ، فإن فعل ، فالصلح فاسد ، فإن دخل ، أخرج وثبت العوض المسمى بخلاف الإجارة الفاسدة ، فإنه إنما تثبت فيها أجرة المثل ، لأنه هنا استوفى المعوض وليس لمثله أجرة ، وإن دخل ولم ينته إلى الموضع المشروط ، وجبت الحصة من المسمى ، ولو دخل كافر بغير إذن الإمام ، أخرج وعزر إن كان علم ، فلو مات فيه ، لم يدفن فيه ، فإن دفن ، نبش وأخرج ، فإن تقطع ، ترك ، وفي " البحر " وجه أنه تجمع عظامه إن أمكن وتخرج ، وبهذا قطع الإمام ، وبالأول قال الجمهور ، [ ص: 310 ] ولو مرض فيه ، لم يمرض فيه ، بل ينقل وإن خيف من النقل موته ، ولو مرض كافر في الحجاز خارج الحرم ، قال : إن أمكن نقله بلا مشقة عظيمة عليه ، كلف الانتقال ، فإن خيف عليه الموت ، ترك حتى يبرأ ، وإن لم يخف الموت ، ولكن تناله مشقة عظيمة ، فالأصح تكليفه الانتقال ، وجواب جمهور الأصحاب أنه لا ينقل مطلقا ، فلو مات في الحجاز وتعذر نقله ، دفن فيه ، ولفظ الإمام أنا نواريه مواراة الجيف ، وإن كان في طرف الحجاز ، نقل لسهولته ، وأطلق أكثرهم أنه يدفن فيه ، وقالوا : إذا جاز تركه في الحجاز للمرض ، فللموت أولى ، وذكر البغوي تفصيلا جيدا وهو أنه إن أمكن نقله قبل أن يتغير ، نقل ولم يدفن فيه ، وإن خيف عليه التغير ، دفن للضرورة ، وإذا دفن حيث لا يؤذن فيه ، هل ينبش ويخرج عند التمكن ؟ وجهان حكاهما الإمام ، والصحيح : المنع ، وبه قطع الجمهور ، فعلى هذا قال الإمام : لا يبعد أن لا يرفع نعش قبره ، وأما حرم المدينة فلا يلحق بحرم مكة فيما ذكرنا ، لكن استحسن الروياني أن يخرج منه إذا لم يتعذر الإخراج ويدفن خارجه ، أما غير الحجاز ، فيجوز تقرير الكفار فيه بالجزية ولكل كافر دخوله بالأمان ، وإذا استأذن كافر في الدخول ، لم يؤذن له إلا لحاجة ، لأنه لا يؤمن أن يجس ، أو يطلع على عورة ، ويتولد من اطلاعه فساد ، أو يفتك بمسلم ، ويؤذن له إذا كان في دخوله مصلحة للمسلمين ، كرسالة وعقد ذمة أو هدنة ، وإن كان يدخل لتجارة ، فللإمام أن يأذن له إذا رأى ذلك ، ويأخذ من تجارته شيئا كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وإذا دخل لبعض هذه الأغراض فليكن مكثه بقدر الحاجة ، وليس لكافر أن يدخل مساجد هذه البلاد بغير إذن ، ولا يؤذن له في دخولها لأكل ولا نوم ، لكن يؤذن لسماع القرآن أو الحديث والعلم ، قال الروياني : وكذا لحاجته إلى مسلم ، أو حاجة مسلم إليه ، وإذا دخل بلا إذن إن كان جاهلا فمعذور ويعرف ، وإن كان عالما ، عزر ، وقيل : لا يعزر إلا أن [ ص: 311 ] يشرط عليه أن لا يدخل بلا إذن ، وجلوس القاضي في المسجد إذن للكافر في الدخول ، وإذا كان له خصومة . وهل يفرق بين كونه جنبا وغيره ؟ وجهان سبقا في كتاب الصلاة ، والصحيح الأشهر أنه يكفي إذن آحاد المسلمين في دخول كل المساجد ، وقال الروياني : لا يكفي في الجامع إلا إذن السلطان ، وفي مساجد القبائل والمحال وجهان ، أحدهما : يشترط إذن من له أهلية الجهاد ، وأصحهما : يكفي إذن من يصح أمانه ، وإذا قدم وفد من الكفار ، فالأولى أن ينزلهم الإمام في دار مهيأة لذلك ، أو في فضول مساكن المسلمين ، فإن لم يتيسر ، فله إنزالهم في المسجد ، ويجوز تعليمهم القرآن إذا رجي إسلامهم ، ولا يجوز إذا خيف استخفافهم ، وكذا القول في تعليم أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - والفقه والكلام ، ولا يمنعون من الشعر والنحو ، قال الروياني : ومنعه بعض الفقهاء ، لئلا يتطاولوا به على مسلم لا يحسنه .

                                                                                                                                                                        قلت : قال أصحابنا : لا يمنع الكافر من سماع القرآن ، ويمنع من مس المصحف ، ولا يجوز تعليمه القرآن إن لم يرج إسلامه ويمنعه التعليم على الأصح ، وإن رجي ، جاز تعليمه على الأصح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        من دخل منهم لتجارة أو رسالة لم يمكن من إظهار خمر ولا خنزير ، ولا يأذن له الإمام في حملها إلى دار الإسلام .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية