الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        غناء الإنسان قد يقع بمجرد صوته ، وقد يقع بآلة ، أما القسم الأول فمكروه وسماعه مكروه ، وليسا محرمين ، فإن كان سماعه من أجنبية فأشد كراهة ، وحكى القاضي أبو الطيب تحريمه وهذا هو الخلاف الذي سبق في أن صوتها هل هو عورة ، فإن كان في السماع منها خوف فتنة ، فحرام بلا خلاف ، وكذا السماع من صبي يخاف منه الفتنة ، وحكى أبو الفرج الزاز وجها أنه يحرم كثير السماع دون قليله ، ووجه أنه يحرم مطلقا ، والصحيح الأول ، وهو المعروف للأصحاب .

                                                                                                                                                                        وأما الحداء ، وسماعه ، فمباحان ، وأما تحسين الصوت بقراءة القرآن ، فمسنون ، وأما القراءة بالألحان ، فقال في " المختصر " : لا بأس بها وعن رواية الربيع بن سليمان الجيزي أنها مكروهة ، قال جمهور الأصحاب : ليست على قولين ، بل المكروه أن يفرط في المد وفي إشباع الحركات حتى تتولد من الفتحة ألف ، ومن الضم واو ، ومن الكسرة ياء ، أو يدغم في غير موضع الإدغام ، فإن لم ينته إلى هذا الحد ، فلا كراهة ، وفي أمالي السرخسي وجه أنه لا يكره وإن أفرط .

                                                                                                                                                                        قلت : الصحيح أنه إذا أفرط على الوجه المذكور ، فهو حرام ، صرح به صاحب " الحاوي " فقال : هو حرام يفسق به القارئ ، ويأثم المستمع ؛ لأنه عدل به عن لهجة التقويم ، وهذا مراد الشافعي بالكراهة . ويسن ترتيل القراءة وتدبرها ، والبكاء عندها ، وطلب القراءة [ ص: 228 ] من حسن الصوت ، والجلوس في حلق القراءة ولا بأس بترديد الآية للتدبر ، ولا باجتماع الجماعة في القراءة ، ولا بإدارتها وهو أن يقرأ بعض الجماعة قطعة ، ثم البعض قطعة بعدها ، وقد أوضحت هذا كله وما يتعلق به من النفائس في " آداب حملة القرآن " . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        القسم الثاني : أن يغني ببعض آلات الغناء مما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار يحرم استعماله واستماعه . وفي اليراع وجهان صحح البغوي التحريم والغزالي الجواز ، وهو الأقرب ، وليس المراد من اليراع كل قصب بل المزمار العراقي وما يضرب به الأوتار حرام بلا خلاف .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح أو الصحيح تحريم اليراع ، وهو هذه الزمارة التي يقال لها الشبابة وقد صنف الإمام أبو القاسم الدولعي كتابا في تحريم اليراع مشتملا على نفائس ، وأطنب في دلائل تحريمه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        أما الدف ، فضربه مباح في العرس والختان ، وأما في غيرهما ، فأطلق صاحب " المهذب " والبغوي وغيرهما تحريمه ، وقال الإمام والغزالي : حلال : وحيث أبحناه هو فيما إذا لم يكن فيه جلاجل ، فإن كان ، فالأصح حله أيضا . ولا يحرم ضرب الطبول إلا الكوبة ، وهو طبل طويل متسع الطرفين ضيق الوسط ، وهو الذي يعتاد ضربه المخنثون ، والطبول التي تهيأ لملاعب الصبيان إن لم تلحق بالطبول الكبار ، فهي كالدف ، وليست كالكوبة بحال ، والضرب بالصفاقتين حرام ، كذا ذكره الشيخ أبو محمد وغيره ؛ لأنه من عادة المخنثين ، [ ص: 229 ] وتوقف فيه الإمام ؛ لأنه لم يرد فيه خبر بخلاف الكوبة . وفي تحريم الضرب بالقضيب على الوسائد وجهان ، قطع العراقيون بأن مكروه لا حرام ، والرقص ليس بحرام ، قال الحليمي : لكن الرقص الذي فيه تثن وتكسر يشبه أفعال المخنثين حرام على الرجال والنساء .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إنشاء الشعر وإنشاده واستماعه جائز ، فلو هجا الشاعر في شعره ولو بما هو صادق فيه ردت شهادته ، وليس إثم حاكي الهجو كإثم منشئه ، ويشبه أن يكون التعريض هجوا كالتصريح ، وقال ابن كج : ليس التعريض هجوا ، وترد شهادة الشاعر إذا كان يفحش ويشبب بامرأة بعينها ، أو يصف أعضاء باطنة ، فإن شبب بجاريته أو زوجته ، فوجهان ، أحدهما : يجوز ولا ترد شهادته ، وهذا القائل يقول : إذا لم تكن المرأة معينة ، لا ترد شهادته لاحتمال أنه يريد من تحل له ، والصحيح أن ترد شهادته إذا ذكر جاريته أو زوجته بما حقه الإخفاء ، لسقوط مروءته .

                                                                                                                                                                        ولو كان يشبب بغلام ، ويذكر أنه يعشقه ، قال الروياني : يفسق وإن لم يعينه ؛ لأن النظر إلى الذكور بالشهوة حرام بكل حال . وفي " التهذيب " وغيره اعتبار التعيين في الغلام كالمرأة . وإن كان يمدح الناس ويطري ، نظر إن أمكن حمله على ضرب مبالغة ، جاز ، وإن لم يكن حمله على المبالغة وكان كذبا محضا ، فالصحيح الذي عليه الجمهور وهو ظاهر نصه أنه كسائر أنواع الكذب ، فترد شهادته إن كثر منه .

                                                                                                                                                                        وقال القفال ، والصيدلاني : لا يلحق بالكذب ؛ لأن الكاذب يوهم الكذب صدقا بخلاف الشاعر ، فعلى هذا لا فرق بين قليله وكثيره ، وهذا حسن بالغ ، وينبغي أن يقال على قياسه : إن التشبيب بالنساء والغلمان بغير تعيين لا يخل بالعدالة وإن كثر منه ؛ لأن التشبيب صنعة ، وغرض الشاعر تحسين الكلام لا تحقيق المذكور ، وكذلك ينبغي أن يكون الحكم لو سمى امرأة لا يدري من هي .

                                                                                                                                                                        [ ص: 230 ] فرع

                                                                                                                                                                        ما حكمنا بإباحته في هذه الصورة قد يقتضي الإكثار منه رد الشهادة ، لكونه خارما للمروءة فمن داوم على اللعب بالشطرنج والحمام ، ردت شهادته وإن لم يقترن به ما يوجب التحريم ، لما فيه من ترك المروءة ، وكذا من داوم على الغناء أو سماعه وكان يأتي الناس ويأتونه ، أو اتخذ جارية أو غلاما ليتغنيا للناس ، وكذا المداومة على الرقص ، وضرب الدف ، وكذا إنشاد الشعر ، واستنشاده إذا أكثر منه ، فترك به مهماته ، كان خارما للمروءة ، ذكره الإمام ، قال : وكذا لو كان الشاعر يكتسب بشعره .

                                                                                                                                                                        والمرجع في المداومة والإكثار إلى العادة ، ويختلف الأمر فيه بعادات النواحي والبلاد ، ويستقبح من شخص قدر لا يستقبح من غيره ، وللأمكنة فيه أيضا تأثير ، فاللعب بالشطرنج في الخلوة مرارا لا يكون كاللعب به في سوق مرة على ملإ من الناس ، وهل يقال على هذا : لما استمرت العادة أن الشاعر يكتسب بشعره وعد صنعة الغناء حرفة ومكسبا ، فالاشتغال به ممن يليق بحاله ، لا يكون تركا للمروءة ؟ وكلام الأصحاب محمول على ما لا يليق به ، وقد رأيت ما ذكرته في الشاعر يكتسب بشعره لابن القاص .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ما حكمنا بتحريمه في هذه المسائل ، كالنرد وسماع الأوتار ، ولبس الحرير ، والجلوس عليه ونحوها ، هل هو من الكبائر فترد الشهادة بمرة أم من الصغائر ، فيعتبر المداومة والإكثار ؟ وجهان يميل كلام الإمام إلى أولهما ، والأصح الثاني ، وهو المذكور في التهذيب وغيره ، وزاد الإمام ، فقال : ينظر إلى عادة البلد والقطر ، فحيث يستعظمون النرد وسماع الأوتار ترد الشهادة بمرة واحدة ؛ لأن [ ص: 231 ] الإقدام في مثل تلك الناحية لا يكون إلا من جسور منحل عن ربقة المروءة ، فتسقط الثقة بقوله ، وحيث لا يستعظمونه لا يكون مطلق الإقدام مشعرا بترك المبالاة ، وسقوط المروءة ، وحينئذ يقع النظر في أنه صغيرة أم كبيرة .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية