الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        باب

                                                                                                                                                                        التكفين

                                                                                                                                                                        تقدم أنه فرض كفاية . ويستحب في لون الكفن البياض ، وجنسه في حق كل ميت ، ما يجوز له لبسه في الحياة ، فيجوز تكفين المرأة في الحرير ، لكن يكره ، ويحرم تكفين الرجل به .

                                                                                                                                                                        قلت : ولنا وجه شاذ منكر : أنه يحرم تكفين المرأة في الحرير . وأما المزعفر ، والمعصفر ، فلا يحرم تكفينها فيه ، لكن يكره على المذهب . وفي وجه : لا يكره . قال أصحابنا : يعتبر في الأكفان المباحة حال الميت ، فإن كان مكثرا ، فمن جياد الثياب ، وإن كان متوسطا ، فأوسطها ، وإن كان مقلا ، فخشنها . قالوا : وتكره المغالاة فيه . قال القاضي حسين ، وصاحب ( التهذيب ) : والمغسول أولى [ ص: 110 ] من الجديد . واتفقوا على استحباب تحسين الكفن في البياض ، والنظافة ، وسبوغه ، وكثافته ، لا في ارتفاعه . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        أقل الكفن ثوب ، وأكمله للرجال ثلاثة ، وفي قدر الثوب الواجب ، وجهان . أحدهما : ما يستر العورة ، ويختلف باختلاف عورة المكفن في الذكورة والأنوثة . والثاني : ما يستر جميع بدنه إلا رأس المحرم ، ووجه المحرمة .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : الأول . وصححه الجمهور ، وهو ظاهر النص . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        وإذا كفن فيما لا يعم الرأس والرجلين ، ستر الرأس . والثوب الواجب حق لله تعالى لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه . والثاني والثالث حق للميت تنفذ وصيته بإسقاطهما . ولو لم يوص فقال بعض الورثة : يكفن بثوب ، وبعضهم : بثلاثة ، فالمذهب يكفن بثلاثة . وقيل : وجهان . أحدهما : بثوب . وأصحهما : بثلاثة ، ولو اتفقت الورثة على ثوب ، قال في ( التهذيب ) : يجوز . وفي ( التتمة ) : إنه على الخلاف .

                                                                                                                                                                        قلت : قول ( التتمة ) أقيس . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو كان عليه ديون مستغرقة ، فقال الغرماء : ثوب ، فثوب على الأصح .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        محل الكفن : رأس مال التركة ، يقدم على الديون والوصايا والميراث ، لكن لا يباع المرهون في الكفن ، ولا الجاني ، ولا ما وجبت فيه الزكاة .

                                                                                                                                                                        [ ص: 111 ] قلت : ويلحق بالثلاثة ، المال الذي ثبت فيه حق الرجوع بإفلاس الميت . وقد ذكره الرافعي في أول الفرائض . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فإن لم يترك مالا ، فكفنه على من هو في نفقته ، فعلى القريب كفن قريبه ، وعلى السيد كفن عبده ، وأم ولده ، ومكاتبه ، وسواء في أولاده كانوا صغارا ، أو كبارا ، تجب عليه أكفانهم ، لأنهم عاجزون بالموت ، ونفقة عاجزهم واجبة . ويجب على الزوج كفنها ، ومؤنة تجهيزها على الأصح . فعلى هذا ، لو لم يكن للزوج مال ، ففي مالها . أما إذا لم يترك الميت مالا ، ولا كان له من تلزمه نفقته ، فيجب كفنه ومؤنة تجهيزه في بيت المال ، كنفقته . وهل يكفن منه بثوب واحد ، أم بثلاثة ؟ وجهان . أصحهما : بثوب . فإن قلنا : ثوب ، فلو ترك ثوبا لم يزد من بيت مال ، وإن قلنا : ثلاثة ، كملت على الأصح . وإذا لم يكن في بيت المال مال ، فعلى عامة المسلمين الكفن ومؤنة التجهيز .

                                                                                                                                                                        قلت : قال القاضي حسين : إذا مات وهو في نفقة غيره ، هل يلزمه تكفينه بثلاثة أثواب ، أم بثوب ؟ وجهان . أصحهما : ثوب . وقطع هو وصاحب ( التهذيب ) بأنه إذا لم يكن في بيت المال مال ، ولزم المسلمين تكفينه ، لا يجب أكثر من ثوب . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قدمنا أن الأفضل في كفن الرجل ثلاثة أثواب . فلو زيد إلى خمسة ، جاز ، ولا يستحب . ويستحب تكفين المرأة في خمسة ، والخنثى كالمرأة ، والزيادة على الخمسة مكروهة على الإطلاق .

                                                                                                                                                                        [ ص: 112 ] قلت : قال إمام الحرمين : قال الشيخ أبو علي : وليست الخمسة في حق المرأة كالثلاثة للرجل ، حتى نقول : يجبر الورثة عليها ، كما يجبرون على الثلاثة . قال الإمام : وهذا متفق عليه . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ثم إن كفن الرجل والمرأة في ثلاثة ، فالمستحب ثلاث لفائف . وإن كفن الرجل في خمسة ، فثلاث لفائف ، وقميص ، وعمامة ، وتجعلان تحت اللفائف . وإن كفنت المرأة في خمسة ، فقولان . الجديد : إزار وخمار ، وثلاث لفائف . والقديم وهو الأظهر عند الأكثرين : إزار وخمار وقميص ولفافتان . وهذه المسألة مما يفتى فيه على القديم .

                                                                                                                                                                        قلت : قال الشيخ أبو حامد ، والمحاملي : المعروف للشافعي في عامة كتبه ، أنه يكون فيها قميص . قالا : والقول الآخر : لا يعرف إلا عن المزني ، فعلى هذا الذي نقلا ، لا يكون إثبات القميص مختصا بالقديم . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ثم قال الشافعي - رحمه الله - : يشد على صدرها ثوب ، لئلا تنتشر أكفانها ، واختلف فيه . فقال أبو إسحاق : هو ثوب سادس ، ويحل عنها إذا وضعت في القبر . وقال ابن سريج : يشد عليها ثوب من الخمسة ويترك ، والأول أصح عند الأصحاب .

                                                                                                                                                                        وأما ترتيب الخمسة ، فقال المحاملي وغيره : على قول أبي إسحاق : إن قلنا : تقمص ، شد عليها المئزر ، ثم القميص ، ثم الخمار ، ثم تلف في ثوبين ، ثم يشد السادس ، وإن قلنا : لا تقمص ، شد المئزر ، ثم الخمار ، ثم تلف في اللفائف ، ثم يشد عليها خرقة . وعلى قول ابن سريج : إن قلنا : تقمص ، شد المئزر ، ثم الدرع ، ثم الخمار ، ثم يشد عليها الخرقة ، ثم تلف في ثوب . وإن قلنا : لا تقمص ، شد المئزر ، ثم الخمار ، ثم تلف في ثوب ، ثم يشد عليها آخر ، ثم تلف في الخامس . وإذا وقع التكفين في اللفائف الثلاث ، ففيها وجهان .

                                                                                                                                                                        [ ص: 113 ] أحدهما : تكون متفاوتة في الأول ، يأخذ ما بين سرته وركبتيه . والثاني : من عنقه إلى كعبه . والثالث : يستر جميع بدنه . وأصحهما : تكون متساوية في الطول والعرض ، يأخذ كل واحد منهما جميع بدنه . ولا فرق في التكفين في الثلاث ، بين الرجل والمرأة ، وإنما يفترقان في الخمسة كما تقدم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يستحب تبخير الكفن بالعود ، إن لم يكن الميت محرما ، فتنصب مبخرة ، وتوضع الأكفان عليها ليصيبها دخان العود ، ثم تبسط أحسن اللفائف وأوسعها ، ويذر عليها حنوط ، وتبسط الثانية فوقها ، ويذر عليها حنوط ، وتبسط الثالثة التي تلي الميت فوقها ، ويذر عليها حنوط وكافور ، ثم يوضع الميت فوقها مستلقيا ، ويؤخذ قدر من القطن المحلوج ، ويجعل عليه حنوط وكافور ، ويدس بين أليتيه حتى يتصل بالحلقة ليرد شيئا يتعرض للخروج ، ولا يدخله في باطنه ، وفيه وجه ضعيف : أنه لا بأس به ، ثم يسد أليتيه ويستوثق بأن يأخذ خرقة ، ويشق رأسها ، ويجعل وسطها عن أليتيه وعانته ، ويشدها فوق السرة بأن يرد ما يلي ظهره إلى سرته ، ويعطف الشقين الآخرين عليه . ولو شد شقا من كل رأس على فخذه ، ومثله على الفخذ الثانية ، جاز . وقيل : يشدها عليه بالخيط ، ولا يشق طرفيها ، ثم يأخذ شيئا من القطن ويضع عليه قدرا من الكافور والحنوط ، ويجعل على منافذ البدن من المنخرين ، والأذنين ، والعينين ، والجراحات النافذة ، دفعا للهوام ، ويجعل الطيب على مساجده ، وهي الجبهة ، والأنف ، وباطن الكفين ، والركبتان ، والقدمان ، فيجعل الطيب على قطن ، ويجعل على هذه المواضع . وقيل : يجعل عليها بلا قطن . ثم يلقى الكفن عليه بأن يثني من الثوب الذي يلي [ ص: 114 ] الميت طرفه الذي يلي شقه الأيسر ، على شقه الأيمن ، والذي يلي الأيمن على الأيسر ، كما يفعل الحي بالقباء ، ثم يلف الثاني والثالث كذلك . وفيه قول آخر : أنه يبدأ بالطرف الذي يلي شقه الأيمن . والأول أصح عند الجمهور ، ومنهم من قطع به .

                                                                                                                                                                        وإذا لف الكفن عليه ، جمع الفاضل عند رأسه جمع العمامة ، ورد على وجهه وصدره إلى حيث بلغ ، وما فضل عند رجليه يجعل على القدمين والساقين . وينبغي أن يوضع الميت على الأكفان أولا ، بحيث إذا لف عليه كان الفاضل عند رأسه أكثر ، ثم تشد الأكفان عليه بشداد ، خيفة انتشارها عند الحمل ، فإذا وضع في القبر . نزع . وفي كون الحنوط مستحبا ، أو واجبا ، وجهان . أصحهما : مستحب .

                                                                                                                                                                        قلت : مذهبنا أن الصبي الصغير كالكبير في استحباب تكفينه في ثلاثة أثواب . وقال الضيمري : لا يستحب أن يعد لنفسه كفنا لئلا يحاسب عليه . وهذا الذي قاله صحيح ، إلا إذا كان من جهة يقطع بحلها ، أو من أثر بعض أهل الخير من العلماء ، أو العباد ونحو ذلك ، فإن ادخاره حسن . وقد صح عن بعض الصحابة فعله . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية