الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        باب .

                                                                                                                                                                        زكاة الفطر .

                                                                                                                                                                        هي واجبة ، وقال ابن اللبان من أصحابنا : غير واجبة .

                                                                                                                                                                        قلت : قول ابن اللبان شاذ منكر ، بل غلط صريح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 292 ] وفي وقت وجوبها أقوال .

                                                                                                                                                                        أظهرها وهو الجديد : تجب بغروب الشمس ليلة العيد ، والثاني : وهو القديم : تجب بطلوع الفجر يوم العيد ، والثالث : تجب بالوقتين معا ، خرجه صاحب التلخيص واستنكره الأصحاب ، فلو ملك عبدا ، أو أسلم عبده الكافر ، أو نكح امرأة ، أو ولد له ولد ليلة العيد ، لم تجب فطرتهم على الجديد ، وعلى المخرج ، وتجب على القديم .

                                                                                                                                                                        ولو مات ولده أو عبده ، أو زوجته ، أو طلقها بائنا ليلة العيد ، أو ارتد العبد ، أو الزوجة ، لم تجب على القديم والمخرج ، وتجب على الجديد ، وكذا الحكم لو أسلم الكافر قبل الغروب ، ومات بعده . ولو حصل الولد أو الزوجة ، أو العبد بعد الغروب ، وماتوا قبل الفجر ، فلا فطرة على الأقوال كلها .

                                                                                                                                                                        ولو زال الملك في العبد بعد الغروب وعاد قبل الفجر ، وجبت على الجديد والقديم .

                                                                                                                                                                        وأما على المخرج ، فوجهان كالوجهين في أن الواهب هل يرجع في ما زال ملك المتهب عنه ثم عاد إليه ؟ ولو باع العبد بعد الغروب واستمر ملك المشتري ، فعلى الجديد : الفطرة على البائع ، وعلى القديم : على المشتري ، وعلى المخرج : لا تجب على واحد منهما ، ولو مات مالك العبد ليلة العيد ، فعلى الجديد : الفطرة في تركته ، وعلى القديم : تجب على الوارث ، وعلى المخرج : لا فطرة أصلا ، وفيه وجه : أنها تجب على الوارث على هذا القول بناء على القديم أن الوارث يبنى على حول الموروث .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        الفطرة يجوز تعجيلها من أول شهر رمضان على المذهب . وتقدم بيانه في باب التعجيل ، فإذا لم يعجل ، فيستحب أن لا يؤخر إخراجها عن صلاة العيد ، ويحرم تأخيرها عن يوم العيد ، فإن أخر قضى .

                                                                                                                                                                        [ ص: 293 ] فصل

                                                                                                                                                                        الفطرة قد يؤديها عن نفسه ، وقد يؤديها عن غيره . وجهات التحمل ثلاث : الملك ، والنكاح ، والقرابة . وكلها تقتضي وجوب الفطرة في الجملة ، فمن لزمه نفقة بسبب منها لزمه فطرة المنفق عليه ، ولكن يشترط في ذلك أمور ، ويستثنى عنه صور ، منها : متفق عليه . ومنها : مختلف فيه ، ستظهر بالتفريع إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        وقال ابن المنذر من أصحابنا : تجب فطرة الزوجة في مالها ، لا على الزوج . فمن المستثنى : أن الابن تلزمه نفقة زوجة أبيه ، تفريعا على المذهب في وجوب الإعفاف ، وفي وجوب فطرتها عليه وجهان .

                                                                                                                                                                        أصحهما عند الغزالي في طائفة : وجوبها . وأصحهما عند صاحبي " التهذيب " و " العدة " وغيرهما : لا تجب .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الثاني هو الأصح ، وجزم الرافعي في المحرر بصحته . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ويجري الوجهان في فطرة مستولدته . ثم من عدا الأصول والفروع من الأقارب ، كالإخوة والأعمام : لا تجب فطرتهم ، كما لا تجب نفقتهم . وأما الأصول والفروع ، فإن كانوا موسرين ، لم تجب نفقتهم ، وإلا فكل من جمع منهم إلى الإعسار الصغر ، أو الجنون ، أو الزمانة وجبت نفقته ، ومن تجرد في حقه الإعسار ، ففي نفقته قولان .

                                                                                                                                                                        ومنهم من قطع بالوجوب في الأصول . وحكم الفطرة حكم النفقة اتفاقا واختلافا . إذا ثبت هذا ، فلو كان الابن الكبير في نفقة أبيه ، فوجد قوته ليلة العيد ويومه فقط ، لم تجب فطرته على الأب لسقوط نفقته ، ولا على الابن ، لإعساره .

                                                                                                                                                                        وإن كان الابن صغيرا ، والمسألة بحالها ، ففي سقوط الفطرة عن الأب وجهان . أصحهما : السقوط كالكبير ، والثاني : لا تسقط لتأكدها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 294 ] فرع

                                                                                                                                                                        الفطرة الواجبة على الغير ، هل تلاقي المؤدى عنه ، ثم يتحمل عنه المؤدي ، أم تجب على المؤدي ابتداء ؟ فيه خلاف .

                                                                                                                                                                        يقال : وجهان . ويقال : قولان مخرجان . أصحهما : الأول .

                                                                                                                                                                        ثم الأكثرون طردوا الخلاف في كل مؤد عن غيره من الزوج والسيد والقريب .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : وقال طوائف من المحققين : هذا الخلاف في فطرة الزوجة فقط . أما فطرة المملوك والقريب ، فتجب على المؤدي ابتداء قطعا ، لأن المؤدى عنه ، لا يصلح للإيجاب لعجزه .

                                                                                                                                                                        ثم حيث فرض الخلاف وقلنا بالتحمل ، فهو كالضمان ، أم كالحوالة ؟ قولان حكاهما أبو العباس الروياني في " المسائل الجرجانيات " فلو كان الزوج معسرا ، والزوجة أمة ، أو حرة موسرة ، فطريقان .

                                                                                                                                                                        أصحهما : فيهما قولان بناء على الأصل المذكور . إن قلنا : الوجوب يلاقي المؤدى عنه أولا ، وجبت الفطرة على الحرة وسيد الأمة ، وإلا فلا تجب على أحد ، والطريق الثاني : تجب على سيد الأمة ، ولا تجب على الحرة ، وهو المنصوص . والفرق ، كمال تسليم الحرة نفسها ، بخلاف الأمة .

                                                                                                                                                                        قلت : الطريق الثاني : أصح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        أما إذا نشزت ، فتسقط فطرتها عن الزوج قطعا .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : والوجه عندي القطع بإيجاب الفطرة عليها وإن قلنا : لا يلاقيها الوجوب ، لأنها بالنشوز خرجت عن إمكان التحمل . ولو كان زوج الأمة موسرا ، ففطرتها كنفقتها ، وبيانها في بابها .

                                                                                                                                                                        وأما خادم الزوجة ، فإن كانت مستأجرة ، لم تجب فطرتها ، وإن كانت من إماء الزوج ، فعليه فطرتها ، وإن كانت من إماء الزوجة ، والزوج ينفق عليها ، لزمها فطرتها ، لأنه يمونها ، نص عليه الشافعي - رحمه الله - في المختصر وقال الإمام : الأصح عندي : أنها لا تلزمه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 295 ] فرع

                                                                                                                                                                        لو أخرجت الزوجة فطرة نفسها مع يسار الزوج بغير إذنه ، ففي إجزائها وجهان .

                                                                                                                                                                        إن قلنا : الزوج متحمل ، أجزأ ، وإلا ، فلا ، ويجري الوجهان فيما لو تكلف من فطرته على قريبه ، باستقراض أو غيره ، وأخرج بغير إذنه . والمنصوص في " المختصر " : الإجزاء .

                                                                                                                                                                        ولو أخرجت الزوجة أو القريب بإذن من عليه ، أجزأ بلا خلاف ، بل لو قال الرجل لغيره : أد عني فطرتي ، ففعل ، أجزأه ، كما لو قال : اقض ديني .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        تجب فطرة الرجعية كنفقتها . وأما البائن : فإن كانت حائلا ، فلا فطرة ، كما لا نفقة ، وإن كانت حاملا ، فطريقان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : تجب كالنفقة ، وهذا هو الراجح عند الشيخ أبي علي ، والإمام ، والغزالي ، والثاني وبه قطع الأكثرون : أن وجوب الفطرة مبني على الخلاف في أن النفقة للحامل ، أم للحمل ؟ إن قلنا بالأول ، وجبت ، وإلا ، فلا ، لأن الجنين لا تجب فطرته .

                                                                                                                                                                        هذا إذا كانت الزوجة حرة ، فإن كانت أمة ، ففطرتها بالاتفاق مبنية على ذلك الخلاف . فإن قلنا : النفقة للحمل ، فلا فطرة ، كما لا نفقة ، لأنه لو برز الحمل ، لم تجب نفقته على الزوج ، لأنه ملك سيدها ، وإن قلنا : للحامل ، وجبت ، وسواء رجحنا الطريق الأول أو الثاني ، فالمذهب : وجوب الفطرة ، لأن الأظهر : أن النفقة للحامل . [ ص: 296 ] فرع

                                                                                                                                                                        لا تجب على المسلم فطرة عبده ، ولا زوجته ، ولا قريبه ، الكفار .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        تجب فطرة العبد المشترك ، وفطرة من بعضه حر . فإن لم يكن مهايأة ، فالوجوب عليهما ، وإن كانت مهايأة بين الشريكين ، أو بين السيد ومن بعضه حر ، فهل تختص الفطرة بمن وقع زمن الوجوب في نوبته ، أم توزع بينهما ؟ يبنى ذلك على أن الفطرة هل هي من المؤن النادرة ، أم من المتكررة ، وأن النادرة هل تدخل في المهايأة ، أم لا ؟ وفي الأمرين خلاف .

                                                                                                                                                                        فأما الأول ، فالمذهب : أن الفطرة من النادرة ، وبه قطع الجمهور . وقيل : فيها وجهان . وأما الثاني : ففيه وجهان مشهوران . أصحهما : دخول النادر .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        المدبر ، وأم الولد ، والمعلق عتقه على صفة ، تجب فطرتهم على السيد ، وتجب فطرة المرهون ، والجاني ، والمستأجر .

                                                                                                                                                                        وقال إمام الحرمين والغزالي : يحتمل أن يجري في المرهون الخلاف المذكور في زكاة المال المرهون ، وهذا الذي قالاه ، لا نعرفه لغيرهما ، بل قطع الأصحاب بالوجوب هنا وهناك .

                                                                                                                                                                        وأما العبد المغصوب والضال ، فالمذهب : وجوب فطرته . وقيل : قولان ، كزكاة المغصوب .

                                                                                                                                                                        وطرد ابن عبدان هذا الخلاف فيما إذا حيل بينه وبين زوجته وقت الوجوب . وأما العبد [ ص: 297 ] الغائب ، فإن علم حياته وكان في طاعته ، وجبت فطرته ، وإن كان آبقا ، ففيه الطريقان ، كالمغصوب . وإن كان لم يعلم حياته ، وانقطع خبره مع تواصل الرفاق ، فطريقان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : القطع بوجوبها ، والثاني : على قولين . والمذهب : على الجملة وجوبها .

                                                                                                                                                                        والمذهب : أن هذا العبد لا يجزئ عتقه عن الكفارة . ثم إذا أوجبنا الفطرة في هذه الصور ، فالمذهب : وجوب إخراجها في الحال . ونص في " الإملاء " على قولين فيه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        العبد ينفق على زوجته من كسبه ، ولا يخرج الفطرة عنها حرة كانت أو أمة ، لأنه ليس أهلا لفطرة نفسه ، فكيف يحمل عن غيره ؟ بل تجب على الزوجة فطرة نفسها إن كانت حرة ، وعلى السيد إن كانت أمة على المذهب فيهما .

                                                                                                                                                                        وقيل : فيهما القولان السابقان فيما إذا كان الزوج حرا معسرا .

                                                                                                                                                                        ولو ملك السيد عبده شيئا ، وقلنا : يملكه ، لم يكن له إخراج فطرة زوجته استقلالا ، لأنه ملك ضعيف ، فلو صرح في الإذن بالصرف إلى هذه الجهة

                                                                                                                                                                        [ فوجهان ] .

                                                                                                                                                                        فإن قلنا : له ذلك ، فليس للسيد الرجوع عن الإذن بعد دخول الوقت ، لأن الاستحقاق إذا ثبت فلا مدفع له .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا أوصى بمنفعة عبد لرجل ، وبرقبته لآخر ، ففطرته على الموصى له بالرقبة قطعا . وهل تجب نفقته عليه ، أم على الآخر ، أو في بيت المال ؟

                                                                                                                                                                        [ فيه ] ثلاثة أوجه .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : أنها على مالك الرقبة ، وأن الفطرة كالنفقة وهي معادة في الوصية . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 298 ] وعبد بيت المال ، والموقوف على مسجد ، لا فطرة فيهما على الصحيح .

                                                                                                                                                                        والموقوف على رجل بعينه ، المذهب : أنه إن قلنا : الملك في رقبته للموقوف عليه ، فعليه فطرته . وإن قلنا : لله تعالى ، فوجهان . وقيل : لا فطرة فيه قطعا ، وبه قطع في " التهذيب " .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : لا فطرة إذا قلنا : لله تعالى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا مات المؤدى عنه بعد دخول الوقت وقبل إمكان الأداء ، لم تسقط الفطرة على الأصح . وبه قطع في " الشامل " .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية