الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في كيفية وجوب الدماء وما يقوم مقامها

                                                                                                                                                                        وفيه نظران .

                                                                                                                                                                        أحدهما : النظر في أي دم يجب على الترتيب ، وأي دم يجب على التخيير ؟

                                                                                                                                                                        [ ص: 184 ] وهاتان الصفتان متقابلتان ، فمعنى الترتيب : أن يتعين عليه الذبح ، ولا يجوز العدول إلى غيره ، إلا إذا عجز عنه . ومعنى التخيير : أنه يجوز العدول إلى غيره مع القدرة .

                                                                                                                                                                        والنظر الثاني : في أنه ، أي دم يجب على سبيل التقدير ، وأي دم يجب على سبيل التعديل ؟ وهاتان الصفتان متقابلتان . فمعنى التقدير : أن الشرع قدر البدل المعدول إليه ترتيبا أو تخييرا بقدر لا يزيد ولا ينقص . ومعنى التعديل : أنه أمر فيه بالتقويم والعدول إلى غيره بحسب القيمة . فكل دم بحسب الصفات المذكورة ، لا يخلو من أحد أربعة أوجه . أحدها : الترتيب والتقدير . والثاني : الترتيب والتعديل . والثالث : التخيير والتقدير . والرابع : التخيير والتعديل . وتفصيلها بثمانية أنواع .

                                                                                                                                                                        أحدها : دم التمتع ، وهو دم ترتيب وتقدير ، كما ورد به نص القرآن العزيز . وقد سبق شرحه ، وذكرنا أن دم القران في معناه . وفي دم الفوات ، طريقان . أصحهما وبه قطع الجمهور : أنه كدم التمتع في الترتيب والتقدير وسائر الأحكام .

                                                                                                                                                                        والثاني : على قولين . أحدهما : هذا . والثاني : أنه كدم الجماع في الأحكام ، إلا أن هذا شاة ، والجماع بدنة ، لاشتراك الصورتين في وجوب القضاء .

                                                                                                                                                                        الثاني : جزاء الصيد ، وهو دم تخيير وتعديل ، ويختلف بكون الصيد مثليا أو غيره ، وسبق إيضاحه . وجزاء شجر الحرم ، كجزاء الصيد . وسبق حكاية قول عن رواية أبي ثور ، أن دم الصيد على الترتيب ، وهو شاذ .

                                                                                                                                                                        الثالث : دم الحلق والقلم ، وهو دم تخيير وتقدير . فإذا حلق جميع شعره ، أو ثلاث شعرات ، يخير بين أن يذبح شاة ، وبين أن يتصدق بثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين ، وبين أن يصوم ثلاثة أيام . وإذا تصدق بالآصع ، وجب أن يعطي كل مسكين نصف صاع . هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور . وحكى في " العدة " وجها : أنه لا يتقدر ما يعطى كل مسكين .

                                                                                                                                                                        [ ص: 185 ] الرابع : الدم المنوط بترك المأمورات ، كالإحرام من الميقات ، والرمي والمبيت بمزدلفة ليلة النحر ، وبمنى ليالي التشريق ، والدفع من عرفة قبل الغروب ، وطواف الوداع . وفي هذا الدم أربعة أوجه . أصحها وبه قطع العراقيون وكثيرون من غيرهم : أنه كدم التمتع في الترتيب والتقدير . فإن عجز عن الدم ، صام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله . والثاني : أنه ترتيب وتعديل ؛ لأن التعديل هو القياس ، وإنما يصار إلى التقدير بتوقيف . فعلى هذا ، يلزمه ذبح شاة . فإن عجز ، قومها دراهم واشترى بها طعاما وتصدق به . فإن عجز ، صام عن كل مد يوما . وإذا ترك حصاة ، فقد ذكرنا أقوالا في أن الواجب مد ، أو درهم ، أو ثلث شاة ؟ فإن عجز ، فالطعام ، ثم الصوم على ما يقتضيه التعديل بالقيمة . والثالث : أنه دم ترتيب . فإن عجز ، لزمه صوم الحلق . والرابع : دم تخيير وتعديل ، كجزاء الصيد ، وهذان الوجهان شاذان ضعيفان .

                                                                                                                                                                        الخامس : دم الاستمتاع ، كالتطيب والادهان واللبس ومقدمات الجماع ، فيه أربعة أوجه . الأصح : أنه دم تخيير ، وتقدير ، كالحلق ، لاشتراكهما في الترفه . والثاني : تخيير وتعديل ، كالصيد . والثالث : ترتيب وتعديل . والرابع : ترتيب وتقدير ، كالتمتع .

                                                                                                                                                                        السادس : دم الجماع ،

                                                                                                                                                                        [ و ] فيه طرق للأصحاب ، واختلاف منتشر ، المذهب منه : أنه دم ترتيب وتعديل ، فيجب بدنة . فإن عجز عنها ، فبقرة . فإن عجز ، فسبعة من الغنم . فإن عجز ، قوم البدنة بدراهم ، والدراهم بطعام ، ثم يتصدق به . فإن عجز ، صام عن كل مد يوما . وقيل : إذا عجز عن الغنم ، قوم البدنة وصام . فإن عجز ، أطعم ، فيقدم الصيام على الإطعام ، ككفارة القتل ونحوها ، وقيل : لا مدخل للإطعام والصيام هنا ، بل إذا عجز عن الغنم ، ثبت الهدي في ذمته إلى أن يجد تخريجا من أحد القولين في دم الإحصار . ولنا قول : وقيل وجه : أنه يتخير بين البدنة ، والبقرة ، والغنم . فإن عجز عنها ، فالإطعام [ ص: 186 ] ثم الصوم . وقيل : يتخير بين البدنة ، والبقرة ، والسبع من الغنم ، والإطعام ، والصيام .

                                                                                                                                                                        السابع : دم الجماع الثاني ، أو الجماع بين التحللين . وقد سبق الخلاف ، أن واجبهما بدنة ، أم شاة ؟ إن قلنا : بدنة ، فهي في الكيفية كالجماع الأول قبل التحللين ، وإلا ، فكمقدمات الجماع .

                                                                                                                                                                        الثامن : دم الإحصار ، فمن تحلل بالإحصار ، فعليه شاة ، ولا عدول عنها إذا وجدها . وإن لم يجدها ، فهل له بدل ؟ قولان . أظهرهما : نعم ، كسائر الدماء . والثاني : لا ، إذ لم يذكر في القرآن بدله ، بخلاف غيره . فإن قلنا بالبدل ، ففيه أقوال . أحدها : بدله الإطعام بالتعديل . فإن عجز ، صام عن كل مد يوما . وقيل : يتخير على هذا ، بين صوم الحلق وإطعامه . والقول الثاني : بدله الإطعام فقط ، وفيه وجهان . أحدهما : ثلاثة آصع ، كالحلق . والثاني : يطعم ما يقتضيه التعديل . والقول الثالث : بدله الصوم فقط ، وفيه ثلاثة أقوال . أحدها : عشرة أيام . والثاني : ثلاثة . والثالث : بالتعديل عن كل مد يوما . ولا مدخل للطعام على هذا القول ، غير أنه يعتبر به قدر الصيام . والمذهب على الجملة : الترتيب والتعديل .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية