الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في الطوارئ المؤثرة في العقد قبل القبض

                                                                                                                                                                        وهي ثلاثة أنواع .

                                                                                                                                                                        الأول : ما ينشؤه الراهن من التصرفات ، فكل مزيل للملك ، كالبيع ، والإعتاق ، والإصداق ، وجعله أجرة ، والرهن ، والهبة مع القبض والكتابة ، والوطء مع الإحبال ، يكون رجوعا عن الرهن إذا وجد قبل القبض . والتزويج ، والوطء بلا إحبال ، ليس برجوع ، بل رهن المزوجة ابتداء جائز . وأما الإجارة ، فإن جوزنا رهن المستأجر وبيعه ، فليس برجوع ، وإلا ، فرجوع على الأصح . والتدبير ، رجوع على الصحيح المنصوص .

                                                                                                                                                                        قلت : قال أصحابنا العراقيون وصاحب " التتمة " : إن كانت الإجارة إلى مدة تنقضي قبل محل الدين لم يكن رجوعا قطعا ، وإلا فعلى الخلاف والبناء المذكور .

                                                                                                                                                                        [ ص: 70 ] والأصح على الجملة : أنها ليست رجوعا مطلقا ، ونص عليه في " الأم " وقطع به الشيخ أبو حامد والبغوي . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        النوع الثاني : ما يعرض للمتعاقدين ، فإن مات أحدهما قبل القبض ، فنص : أنه يبطل بموت الراهن دون المرتهن ، وفيهما طرق . أصحها . فيهما قولان . أظهرهما : لا يبطل فيهما ؛ لأن مصيره إلى اللزوم ، فلا يبطل بموتهما كالبيع . والثاني : يبطل ؛ لأنه جائز ، فبطل كالوكالة . والطريق الثاني : تقرير النصين ؛ لأن المرهون بعد موت الراهن ، ملك لوارثه . وفي إبقاء الرهن ضرر عليهم ، وفي موت المرتهن يبقى الدين والوارث محتاج إلى الوثيقة حاجة ميته . والثالث : القطع بعدم البطلان فيهما . فإذا قلنا بالقولين ، فقيل : هما مختصان برهن التبرع . فأما المشروط في بيع ، فلا يبطل قطعا لتأكده . والمذهب : طردهما في النوعين ، وبه قال الجمهور .

                                                                                                                                                                        فإذا أبقينا الرهن ، قام وارث الراهن مقامه في الإقباض ، ووارث المرتهن في القبض ، وسواء أبطلناه أم لا ، ولم يتحقق الوفاء بالرهن المشروط ، ثبت الخيار في فسخ البيع . ولو جن أحدهما ، أو أغمي عليه قبل القبض ، فإن قلنا : لا يبطل بالموت ، فهنا أولى ، وإلا ، فوجهان . فإن لم نبطله ، فجن المرتهن ، قبض من ينظر في ماله . فإن لم يسلمه الراهن وكان مشروطا في بيع ، فعل ما فيه المصلحة من الفسخ والإجازة . وإن جن الراهن ، فإن كان مشروطا في بيع ، وخاف الناظر فسخ المرتهن إن لم يسلمه ، والحظ في الإمضاء ، سلمه . وإن لم يخف ، أو كان الحظ في الفسخ ، أو كان رهن تبرع لم يسلمه ، كذا أطلقوه ، ومرادهم : إذا لم يكن ضرورة ولا غبطة ؛ لأنهما تجوزان رهن مال المجنون ابتداء ، فالاستدامة أولى . ولو طرأ على أحدهما حجر سفه ، أو فلس لم يبطل على المذهب .

                                                                                                                                                                        النوع الثالث : ما يعرض في المرهون . فلو رهن عصيرا وأقبضه ، فانقلب في [ ص: 71 ] يد المرتهن خمرا ، بطل الرهن على الصحيح ، وبه قطع الجمهور ، لخروجه عن المالية . وقيل : إن عاد خلا ، بان أن الرهن لم يبطل ، وإلا ، بان بطلانه ، فإن أبطلنا ، فلا خيار للمرتهن إن كان مشروطا في بيع ; لأنه حدث في يده ، فإن عاد خلا ، عاد الرهن على المشهور ، كما يعود الملك . ومرادهم ببطلانه أولا : ارتفاع حكمه ما دام خمرا ، ولم يريدوا اضمحلال أثره بالكلية . ولو رهن شاة فماتت في يد المرتهن ، فدبغ جلدها لم يعد رهنا على الأصح ، واختاره الأكثرون ؛ لأن ماليته حدثت بالمعالجة ، بخلاف الخمر ، ولأن العائد غير ذلك الملك . ولو انقلب خمرا قبل القبض ، ففي بطلانه البطلان الكلي ، وجهان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : نعم ، لاختلاله في حال ضعف الرهن ، وعدم لزومه . والثاني : لا ، كما بعد القبض . ومقتضى كلامهم ، ترجيح هذا .

                                                                                                                                                                        قلت : قد قطع صاحبا " الشامل " و " البيان " بالأول ، ولكن الثاني أصح ، وصححه في المحرر . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        قال في " التهذيب " وعلى الوجهين لو كان مشروطا في بيع ، ثبت الخيار للمرتهن ، لأن الخل دون العصير . ولا يصح الإقباض في حال الخمرية ، فلو فعل وعاد خلا ، فعلى الوجه الثاني : لا بد من استئناف قبض ، وعلى الأول : لا بد من استئناف عقد ، ثم القبض فيه على ما ذكرنا فيما إذا رهنه ما هو في يده .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو انقلب المبيع خمرا قبل القبض ، فالكلام في انقطاع البيع وعوده إذا عاد خلا على ما ذكرناه في انقلاب العصير المرهون خمرا بعد القبض .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا هو المذهب ، وبه قال الأكثرون ، وقطع جماعة من العراقيين ، [ ص: 72 ] منهم صاحب " الشامل " بأنه يبطل البيع ، وفرقوا بينه وبين الرهن بعد القبض ، بأن الرهن عاد تبعا لملك الراهن ، وهنا يعود ملك البائع لعدم البيع ، ولا يصح أن يبيع ملك المشتري . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو جنى المرهون قبل القبض ، وتعلق برقبته أرش ، وقلنا : رهن الجاني ابتداء فاسد ، ففي بطلان الرهن وجهان ، كتخمر العصير ، وهنا أولى بعدم البطلان ، لدوام الملك في الجاني . قال الإمام : وإباق المرهون قبل القبض يخرج على وجهين ؛ لأنه انتهى إلى حالة تمنع ابتداء الرهن .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : لا يبطل ، وصححه في المحرر . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية