الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في الاستحاضة

                                                                                                                                                                        الاستحاضة : قد تطلق على كل دم تراه المرأة غير دم الحيض والنفاس . سواء اتصل بالحيض المجاوز أكثره أم لم يتصل ، كالذي تراه لسبع سنين مثلا . وقد تطلق على المتصل به خاصة ، ويسمى غيره : دم فساد ، ولا تختلف الأحكام في جميع ذلك ، والخارج حدث دائم ، كسلس البول ، فلا يمنع الصلاة والصوم ، ويجوز وطؤها ، وإنما أثر الحدث الدائم : الاحتياط في الطهارة ، وإزالة النجاسة ، فتغسل المستحاضة فرجها قبل الوضوء أو التيمم ، وتحشوه بقطنة أو خرقة دفعا للنجاسة وتقليلا . فإن اندفع به الدم ، وإلا شدت مع ذلك خرقة في وسطها ، وتلجمت بأخرى مشقوقة الطرفين ، فكل هذا واجب ، إلا أن تتأذى بالشد أو تكون صائمة فتترك الحشو وتقتصر على الشد . وسلس البول يدخل قطنة في إحليله ، فإن انقطع ، وإلا عصب مع ذلك رأس الذكر . ثم تتوضأ المستحاضة بعد الاحتياط الذي ذكرناه . ويلزمها تقديم هذا الاحتياط على الوضوء ، ويجب الوضوء لكل فريضة ، ولها ما شاءت من النوافل بعد الفريضة ، ويجب أن تكون طهارتها بعد الوقت على الصحيح . وفي وجه شاذ : تجزئها الطهارة قبل الوقت إذا انطبق آخرها على أول الوقت . وينبغي لها أن تبادر بالصلاة عقب طهارتها . فإن تطهرت في أول الوقت ، وصلت في [ ص: 138 ] آخره أو بعده . فإن كان تأخيرها لسبب الصلاة ، كالأذان ، والاجتهاد في القبلة ، وستر العورة ، وانتظار الجمعة والجماعة ونحوها ، لم يضر ، وإلا فثلاثة أوجه . الصحيح : المنع . والثاني : الجواز . والثالث : الجواز ما لم يخرج الوقت . أما تجديد غسل الفرج ، وحشوه ، وشده لكل فريضة ، فإن زالت العصابة عن موضعها زوالا له وقع ، أو ظهر الدم في جوانبها ، وجب التجديد . وإن لم تزل ، ولا ظهر الدم ، أو زالت زوالا يسيرا ، وجب التجديد على الأصح . وقيل : الأظهر . كما يجب تجديد الوضوء ، ويجري الخلاف فيما لو أحدثت بريح ونحوه قبل أن تصلي ، فلو بالت ، وجب التجديد قطعا . ولو خرج منها الدم بعد الشد لغلبة الدم ، لم يبطل وضوؤها . وإن كان لتقصيرها في الشد ، بطل ، وكذا لو زالت العصابة عن موضعها لضعف الشد ، وزاد خروج الدم بسببه . ولو اتفق ذلك في صلاة ، بطلت ، وإن كان بعد فريضة ، حرم النفل بعدها .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        طهارة المستحاضة تبطل بالشفاء ، وفي وجه شاذ : لو اتصل الشفاء بآخر الوضوء ، لم يبطل ، وليس بشيء . ولو شفيت في صلاة ، بطلت على المذهب . ومتى انقطع دمها وهي تعتاد الانقطاع والعود ، أو لا تعتاده ، لكن أخبرها به من يعتمد من أهل البصر ، نظر ، إن كانت مدة الانقطاع يسيرة لا تسع الطهارة والصلاة التي تطهرت لها ، فلها الشروع في الصلاة . فلو امتد الانقطاع ، بان بطلان الطهارة ، ووجب قضاء الصلاة . وإن كانت مدة الانقطاع تسع الطهارة والصلاة ، لزمها إعادة الوضوء بعد الانقطاع . فلو عاد الدم على خلاف العادة ، قبل الإمكان ، لم يجب إعادة الوضوء على الأصح . لكن لو شرعت في الصلاة بعد هذا الانقطاع ، ولم تعد الوضوء ، فعاد الدم قبل الفراغ ، وجب إعادة الصلاة على الأصح . أما إذا انقطع [ ص: 139 ] دمها وهي لا تعتاد الانقطاع والعود ، ولم يخبرها أهل البصر بالعود ، فيجب إعادة الوضوء . فلو عاد الدم قبل إمكان الوضوء والصلاة ، فالأصح أن وضوءها السابق يبقى على صحته . والثاني : يجب إعادته . ولو خالفت أمرنا ، وشرعت في الصلاة من غير إعادة الوضوء بعد الانقطاع ، فإن لم يعد الدم ، لم تصح صلاتها ، لظهور الشفاء . وكذا إن عاد بعد مضي إمكان الطهارة والصلاة ، لتمكنها من الصلاة بلا حدث ، وكذا إن عاد قبل الإمكان على الأصح ، لترددها عند الشروع . ولو توضأت عند انقطاع دمها وهي لا تدري أنه شفاء ، أم لا ؟ فسبيلها أن تنظر هل تعتاد الانقطاع ، وتجري على مقتضى الحالين كما بينا .

                                                                                                                                                                        قلت : ولنا وجه شاذ : أن المستحاضة لا تستبيح النفل بحال . وإنما استباحت الفريضة مع الحدث الدائم للضرورة . والصواب المعروف أنها تستبيح النوافل مستقلة ، وتبعا للفريضة ما دام الوقت باقيا ، وبعده أيضا على الأصح . والمذهب : أن طهارتها تبيح الصلاة ولا ترفع الحدث . والثاني : ترفعه . والثالث : ترفع الماضي دون المقارن والمستقبل . وإذا كان دمها ينقطع في وقت ، ويسيل في وقت ، لم يجز أن تصلي وقت سيلانه ، بل عليها أن تتوضأ وتصلي في وقت انقطاعه ، إلا أن تخاف فوت الوقت ، فتتوضأ وتصلي في سيلانه . فإن كانت ترجو انقطاعه في آخر الوقت ، فهل الأفضل أن تعجل الصلاة في أول الوقت ، أم تؤخرها إلى آخره ؟ فيه وجهان مذكوران في ( التتمة ) ، بناء على القولين في مثله في التيمم . قال صاحب ( التهذيب ) لو كان سلس البول ، بحيث لو صلى قائما سال بوله ، ولو صلى قاعدا ، استمسك ، فهل يصلي قائما ، أم قاعدا ؟ وجهان . الأصح : قاعدا حفظا للطهارة ، ولا إعادة عليه على الوجهين . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية