الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          فصل ويحرم صيد المدينة وشجرها وحشيشها إلا ما تدعو الحاجة إليه من شجرها للرحل والعارضة والقائمة ومن حشيشها للعلف ، ومن أدخل إليها صيدا ، فله إمساكه وذبحه ، ولا جزاء في صيد المدينة ، وعنه : جزاؤه سلب القاتل لمن أخذه وحد حرمها ما بين ثور إلى عير ، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حول المدينة اثني عشر ميلا حمى .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          فصل ( ويحرم صيد المدينة ) نقله الجماعة ( وشجرها وحشيشها ) لما روى أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها . متفق عليه . ولمسلم : لا يختلى خلاها فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وعن سعد مرفوعا : إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها . رواه مسلم . وقال القاضي : تحريم صيدها يدل على أنه لا تصح ذكاته ، وإن قلنا : يصح فلعدم تأثير هذه الحرمة في زوال ملك الصيد ، نص عليه ، مع أنه ذكر في الصحة احتمالين ( إلا ما تدعو الحاجة إليه من شجرها للرحل ) أي : رحل البعير ، وهو أصغر من القتب ، ( والعارضة ) أي : ما يسقف به المحمل ، ( والقائمة ) إحدى قائمتي الرحل اللتين في مقدمه ، ومؤخره ، لقول جابر : إن [ ص: 208 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم المدينة قالوا : يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح ، وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا فرخص لنا فقال : " القائمتان والوسادة والعارضة والمسد فأما غير ذلك فلا يعضد . رواه أحمد .

                                                                                                                          المسد : هو عود البكرة فاستثنى الشارع ذلك ، وجعله مباحا كاستثناء الإذخر بمكة ، ( ومن حشيشها للعلف ) لقوله - عليه السلام - : ولا يصلح أن تقطع فيها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره . رواه أحمد ، وأبو داود بإسناد جيد من حديث علي ، ولأن ذلك بقربها فالمنع منه ضرر بخلاف مكة ، ( ومن أدخل إليها صيدا فله إمساكه وذبحه ) ، نص عليه ، لقول أنس : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقا ، وكان لي أخ يقال له : أبو عمير قال : أحسبه فطيما ، وكان إذا جاء قال : يا أبا عمير ما فعل النغير لنغر كان يلعب به . متفق عليه . وفي " المستوعب " وغيره : حكم حرم المدينة حكم حرم مكة فيما سبق ، إلا في هاتين المسألتين ( ولا جزاء في صيد المدينة ) قال أحمد في رواية بكر بن محمد : لم يبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أحدا من أصحابه حكموا فيه بجزاء ، وهو قول أكثر العلماء ، واختاره جمع ؛ لأنه يجوز دخولها بغير إحرام ، أو لا يصلح لأداء النسك أو لذبح الهدايا ، وكسائر المواضع وكصيد وج وشجره .

                                                                                                                          ولا يلزم من الحرمة الضمان ، ولا من عدمها عدمه ( وعنه : جزاؤه سلب القاتل لمن أخذه ) نقلها الأثرم ، والميموني ، وهي المنصورة عند الأصحاب من كتب الخلاف لما سبق من تحريمها كمكة ، وعن عامر بن سعد أن سعدا ركب إلى قصره [ ص: 209 ] بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا ، أو يخبطه ، فسلبه ، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم ، فقال : معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى أن يرده عليهم . رواه مسلم . ولأنه يحرم لحرمة ذلك كحرم مكة والإحرام ، وسلبه : ثيابه قال جماعة : والسراويل ، زاد جماعة : وزينة كمنطقة وسوار وخاتم وآلة اصطياد ؛ لأنها آلة الفعل المحظور ، وليست الدابة منه ، بخلاف قاتل الكافر فإنه يأخذها على الأشهر لئلا يستعين بها على الحرب ، فعليها إن لم يسلبه أحد لزمه التوبة فقط ، ( وحد حرمها ) ما بين لابتيها لما روى أبو هريرة مرفوعا : ما بين لابتيها حرام . متفق عليه . اللابة : الحرة ، وهي أرض بها حجارة سود قال أحمد : ما بين لابتيها حرام بريد في بريد ، وكذا فسره مالك بن أنس ، وهذا حدها من جهتي المشرق والمغرب ، ومن روى اللهم إني أحرم ما بين جبليها فالمراد به من جهتي الجنوب والشمال ، والمؤلف نفسه يقوله .

                                                                                                                          ( ما بين ثور إلى عير ) لما روى علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : حرم المدينة ما بين ثور إلى عير . متفق عليه . قال عياض : أكثر رواة البخاري ذكروا عيرا ، فأما ثور ، فمنهم من كنى عنه بكذا ، ومنهم من ترك مكانه بياضا ، لأنهم اعتقدوا ذكر ثور خطأ قال أبو عبيد : أصل الحديث من عير إلى أحد وذكر بعضهم أن الرواية صحيحة ، وهي محمولة على أنه أراد ، حرم المدينة قدر ما بين ثور وعير من مكة ، وليس بظاهر ، ومنع مصعب الزبيري وجودهما بالمدينة ، وليس كذلك فإن عيرا جبل معروف بها وكذا ثور ، وهو جبل خلف أحد كما أخبر به الثقات ، يؤيده الخبر الصحيح ( وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حول المدينة اثني عشر ميلا حمى ) . رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

                                                                                                                          [ ص: 210 ] تذنيب : مكة أفضل من المدينة نصره القاضي وأصحابه لما روى الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في سوق مكة : والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت . رواه أحمد والنسائي والترمذي ، وصححه ، ولمضاعفة الصلاة .

                                                                                                                          وعنه : المدينة أفضل ، اختاره ابن حامد وغيره ، قال : في رواية أبي داود : وسئل عن المقام بمكة أحب إليك أم بالمدينة فقال : بالمدينة لمن قوي عليه ؛ لأنها مهاجر المسلمين .

                                                                                                                          وعن رافع مرفوعا : المدينة خير من مكة ورد بأنه لا يعرف ، وحمله القاضي على وقت كون مكة دار حرب ، أو على الوقت الذي كان فيها ، والشرع يؤخذ منه ، وكذا لا يعرف اللهم إنهم أخرجوني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك قال القاضي معناه : بعد مكة ، وما روي فهو دال على تفضيلها لا أفضليتها ، وكونه - عليه السلام - خلق منها ، وهو خير البشر فتربته خير الترب .

                                                                                                                          وأجاب القاضي بأن فضل الخلقة لا يدل على فضل التربة ; لأن أحد الخلفاء الأربعة أفضل من غيره ، ولم يدل أن تربته أفضل قال ابن عقيل : الكعبة أفضل من الحجرة فأما من هو فيها ، فلا والله ولا العرش وحملته والجنة ؛ لأن بالحجرة جسدا لو وزن به لرجح - صلى الله عليه وسلم - ، وجزم بعض أصحابنا بأن مكة أفضل ، والمجاورة بالمدينة أفضل ، وتضاعف الحسنات والسيئات بمكان أو زمان فاضل ، ذكره جماعة ، وذكر الآجري أن الحسنات تضاعف ، ولم يذكر السيئات .




                                                                                                                          الخدمات العلمية