الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          باب ، حد المحاربين وهم قطاع الطريق ، وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء ، فيغصبونهم المال مجاهرة ، فأما من يأخذه سرقة فليس بمحارب ، وإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين في قول الخرقي ، وقال أبو بكر : حكمهم في المصر ، والصحراء واحد ، وإذا قدر عليهم ، فمن كان منهم قد قتل من يكافئه ، وأخذ المال ، قتل حتما ، وصلب حتى يشتهر . وقال أبو بكر : يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب ، وعن أحمد : أنه يقطع مع ذلك . وإن قتل من لا يكافئه ، فهل يقتل ؛ على روايتين . وإن جنى عليه جناية موجبة للقصاص فيما دون النفس ، فهل يتحتم استيفاؤه ؛ على روايتين .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          باب ، حد المحاربين .

                                                                                                                          المحاربون واحدهم محارب ، وهو اسم فاعل من حارب يحارب ، وهو فاعل من الحرب ، قال ابن فارس الحرب اشتقاقها من الحرب بفتح الراء وهو مصدر حرب ماله أي : سلبه ، والحريب المحروب ، والأصل فيهم قوله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية [ المائدة : 33 ] قال ابن [ ص: 145 ] عباس ، وأكثر العلماء : نزلت في قطاع الطريق من المسلمين لقوله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ] المائدة : 34 [ والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة كما تقبل قبلها ، فلما خصه بما قبل القدرة علم أنه أراد المحاربين لأن ذلك الحكم يجب عليهم حدا لا كفرا ، والحد لا يسقط بالتوبة ، وعن ابن عمر أنها نزلت في المرتدين ، وقاله الحسن ، وعطاء لأن سبب نزولها قضية العرنيين ، وحكاه ابن أبي موسى رواية ، وأنها منسوخة لأن قضيتهم كانت قبل أن تنزل الحدود ، ثم قال فحكم من خرج لقطع الطريق مرتب على ما نزل من الحدود ولولا قيام الدليل على وجوب قطع اليد مع الرجل للمحارب لقلنا لا تقطع إلا يده اليمنى كالسارق قال ابن أبي موسى فعلى هذا يجيء أن يصح عفو ولي الدم عن المحارب ، ويكون الإمام مخيرا فيه ، وهو وجه في " الرعاية " ( وهم قطاع الطريق ) وهم كل مكلف ملتزم ليخرج الحربي ، ولو أنثى ، وقاله الأكثر والعبد ، والذمي كضدهما ، وعنه : ينتقض عهده فيحل دمه وماله بكل حال ، ( وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح ) هذا أحد الشروط فيهم ، وظاهره أنه إذا لم يكن معهم سلاح فليسوا محاربين ، لأنهم لا يمنعون من قصدهم ، والأصح ولو كان بعصا وحجر لأن ذلك من جملة السلاح الذي يأتي على النفس ، أشبه المحدد ، وفي " البلغة " ، وغيرها وجه ويد ، وفي " الشرح " ، وإن قتل في المحاربة بمثقل قتل كما لو قتل بمحدد وإن قتل بآلة لا يجب القصاص بالقتل بها فالظاهر أنهم يقتلون أيضا لدخولهم في العموم .

                                                                                                                          فرع : من قاتل اللصوص وقتل قتل القاتل منهم دون غيره ذكره ابن [ ص: 146 ] أبي موسى ( في الصحراء ) لأن ذلك عادة المحاربين ( فيغصبونهم المال ) المحترم ( مجاهرة ) أي : يأخذون المال قهرا اختاره الأكثر ، ونصره القاضي في " الخلاف " وذكره المذهب ( فأما من يأخذه سرقة فليس بمحارب ) لأنهم لا يرجعون إلى منعة ، وقوة ، وإن اختطفوه ، وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم ( وإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين في قول الخرقي ) قدمه في " المحرر " و " الرعاية " ، وجزم به في " الوجيز " لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق ، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء لأن المصر يلحق فيه الغوث غالبا فتذهب شوكتهم ، ويكونون مختلسين لا قطاع طريق ، ( وقال أبو بكر : حكمهم في المصر والصحراء واحد ) وهو قول كثير من الأصحاب لعموم الآية فيهم ، ولأن ضررهم في المصر أعظم ، فكانوا بالحد أولى ، وفي " الفروع " قيل : في صحراء ، وقيل : ومصر ، إن لم يغث وحكى في " الكافي " ، و " الشرح " عن القاضي أنه قال إذا كبسوا دارا في مصر بحيث يلحقهم الغوث عادة لم يكونوا محاربين وإن حصروا قرية أو بلدا لا يلحقهم الغوث عادة فهم قطاع طريق ولم يذكر في " الرعاية " فيه خلافا ويعتبر ثبوته ببينة ، أو إقرارا مرتين كسرقة ذكره القاضي وغيره وفي سقوطه اليسرى كسرقة وجهان ، قاله في " المستوعب " وغيره ( وإذا قدر عليهم فمن كان منهم قد قتل من يكافئه وأخذ المال قتل حتما وصلب حتى يشتهر ) لما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة [ ص: 147 ] متفق عليه ، وقال ابن عباس : ما كان في القرآن بـ " أو " فصاحبه بالخيار ، وجوابه بأنه قد عرف من القرآن أن ما أريد به التخيير فيبدأ بالأخف ككفارة اليمين ، وما أريد به الترتيب فيبدأ بالأغلظ ككفارة الظهار والقتل ، ولأن العقوبات تختلف باختلاف الأجرام ، ولذلك اختلف حكم الزاني ، والقاذف ، والسارق ، ولأن القتل وجب لحق الله تعالى فلم يخير الإمام فيه كقطع السارق ، وروى الشافعي ، عن إبراهيم بن يحيى ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس إذا قتلوا وأخذوا المال قطاع الطريق قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قطاع الطريق قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطاع الطريق قطعت أيديهم ، وأرجلهم من خلاف ، وإذا خافوا السبيل ، ولم يأخذوا مالا قطاع الطريق نفوا من الأرض وروي نحوه مرفوعا ، وإذا ثبت هذا قتل وصلب في ظاهر المذهب ، قاله في " المغني " ، و " الشرح " ، وقتله متحتم لا يدخله عفو بالإجماع ، والصلب بعد القتل ، وقيل : يصلب أولا ، ثم يقتل ، والأول أولى ، لأنه تعالى قدم القتل على الصلب ، كقوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله ] البقرة : 158 [ ولقوله عليه السلام : إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ولأنه شرع ردعا لغيره ، ليشتهر أمره ، ولو شرع لردعه فقط لسقط بقتله كما تسقط سائر الحدود مع القتل ، والصلب حتم في حق من قتل ، وأخذ المال ، فلا يسقط بعفو ، ولا غيره ، ويكون حتى يشتهر ، ذكره معظم الأصحاب ، لأن المقصود منه زجر غيره ولا يحصل إلا به ( وقال أبو بكر : يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب ) اقتصر ابن هبيرة على حكايته عن أحمد لأن بذلك يصدق اسم الصلب ، وقال ابن رزين يصلب ثلاثة أيام ، وهذا توقيت بغير [ ص: 148 ] توقيف مع أنه في الظاهر يفضي إلى تغيره ، ونتنه ، ( وعن أحمد : أنه يقطع مع ذلك ) اختاره أبو محمد الجوزي لأن كل واحد منهما يوجب حدا مفردا فإذا اجتمعا وجب حدهما كما لو زنى ، وسرق ، فعلى هذا يقطع أولا ، ثم يقتل ، ثم بعد ذلك يدفع إلى أهله ، فيغسل ، ويكفن ، ويصلى عليه ، ويدفن ، وإن مات قبل قتله لم يصلب لأنه تابع للقتل ، فسقط بفواته ( وإن قتل من لا يكافئه ) كولده ، وعبد ، وذمي ، ( فهل يقتل ؛ قاطع الطريق على روايتين ) .

                                                                                                                          إحداهما : يقتل ، ويصلب ، قدمها في " الرعاية " ، وجزم بها في " الوجيز " للعموم ولأن القتل حد لله تعالى ، فلا تعتبر فيه المكافأة كالزنا ، والسرقة .

                                                                                                                          والثانية : لا ، ذكر القاضي في " الخلاف " أن هذا ظاهر كلام أحمد في رواية جماعة ، لقوله عليه السلام لا يقتل مسلم بكافر فعلى هذا إذا قتل مسلم ذميا أو حر عبدا ، وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف لأخذ المال ، وغرم دية ذمي ، وقيمة عبد ، وإن قتله ولم يأخذ مالا ( ذمي أو عبد ) غرم ديته ، ونفي ، وقيل : إن قلنا : القتل حق لله فلم يقتل من يكافئه ، وإلا فلا ، وفي " الشرح " عن القاضي أنه قال : إنما يتحتم قتله إذا قتله ليأخذ المال فإن قتله لغير ذلك كعداوة ، فالواجب قصاص غير متحتم ، ( وإن جنى عليه جناية موجبة للقصاص فيما دون النفس ) كالطرف ( فهل يتحتم استيفاؤه ؛ قاطع الطريق على روايتين ) وكذا في الفروع .

                                                                                                                          إحداهما : قال في " الشرح " ، وهي أولى لا يتحتم لأن الله تعالى لم يذكره ، وحينئذ لا يجب فيه أكثر من القصاص .

                                                                                                                          والثانية : يتحتم ، قدمها في " الرعاية " ، وحزم بها في " الوجيز " لأنه نوع قود ، فتحتم استيفاؤه ، كالقود في النفس ، ولا يسقط مع تحتم القتل على الروايتين ، ويحتمل سقوطه بتحتم قتله ، وذكره بعضهم [ ص: 149 ] فقال : يحتمل أن تسقط الجناية ، إن قلنا يتحتم استيفاؤها ، وذكره بعضهم ، فقال : يحتمل أن يسقط تحتم القتل إن قلنا يتحتم في الطرف ، قال في " الفروع " ، وهذا وهم .




                                                                                                                          الخدمات العلمية