الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في الإحرام

واتفق جمهور العلماء على أن الغسل للإهلال سنة ، وأنه من أفعال المحرم حتى قال ابن نوار : إن هذا الغسل للإهلال عند مالك أوكد من غسل الجمعة . وقال أهل الظاهر : هو واجب . وقال أبو حنيفة والثوري : يجزئ منه الوضوء

وحجة أهل الظاهر : مرسل مالك من حديث أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء ، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : مرها فلتغتسل ثم لتهل " . والأمر عندهم على الوجوب .

وعمدة الجمهور : أن الأصل هو براءة الذمة حتى يثبت الوجوب بأمر لا مدفع فيه ، وكان عبد الله بن عمر يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ، ولدخوله مكة ، ولوقوفه عشية يوم عرفة ، ومالك يرى هذه الاغتسالات الثلاث من أفعال المحرم .

واتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنية ، واختلفوا هل تجزئ النية فيه من غير التلبية ؟ فقال مالك والشافعي : تجزئ النية من غير التلبية . وقال أبو حنيفة : التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة ، إلا أنه يجزئ عنده كل لفظ يقوم مقام التلبية ، كما يجزئ عنده في افتتاح الصلاة كل لفظ يقوم مقام التكبير ، وهو كل ما يدل على التعظيم .

واتفق العلماء على أن لفظ تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " . وهي من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أصح سندا .

واختلفوا في هل هي واجبة بهذا اللفظ أم لا ؟ فقال أهل الظاهر : هي واجبة بهذا اللفظ ، ولا خلاف عند [ ص: 280 ] الجمهور في استحباب هذا اللفظ ، وإنما اختلفوا في الزيادة عليه أو في تبديله .

وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالتلبية ، وهو مستحب عند الجمهور لما رواه مالك : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية وبالإهلال " .

وأجمع أهل العلم على أن تلبية المرأة فيما حكاه أبو عمر هو أن تسمع نفسها بالقول . وقال مالك : لا يرفع المحرم صوته في مساجد الجماعة بل يكفيه أن يسمع من يليه ، إلا في المسجد الحرام ومسجد منى فإنه يرفع صوته فيهما . واستحب الجمهور رفع الصوت عند التقاء الرفاق ، وعند الإطلال على شرف من الأرض . وقال أبو حازم : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم . وكان مالك لا يرى التلبية من أركان الحج ، ويرى على تاركها دما ، وكان غيره يراها من أركانه .

وحجة من رآها واجبة : أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتت بيانا لواجب أنها محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " خذوا عني مناسككم " . وبهذا يحتج من أوجب لفظه فيها فقط .

ومن لم ير وجوب لفظه فاعتمد في ذلك على ما روي من حديث جابر قال : " أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فذكر التلبية التي في حديث ابن عمر . وقال في حديثه : " والناس يزيدون على ذلك : لبيك ذا المعارج ، ونحوه من الكلام ، والنبي يسمع ولا يقول شيئا " . وما روي عن ابن عمر أنه كان يزيد في التلبية ، وعن عمر بن الخطاب وعن أنس وغيره .

واستحب العلماء أن يكون ابتداء المحرم بالتلبية بأثر صلاة يصليها ، فكان مالك يستحب ذلك بأثر نافلة لما روي من مرسله عن هشام بن عروة ، عن أبيه : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين فإذا استوت به راحلته أهل " .

واختلفت الآثار في الموضع الذي أحرم منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحجته من أقطار ذي الحليفة ، فقال قوم : من مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى فيه ، وقال آخرون : إنما أحرم حين أطل على البيداء ، وقال قوم : إنما أهل حين استوت به راحلته . وسئل ابن عباس عن اختلافهم في ذلك فقال : كل حدث لا عن أول إهلاله - عليه الصلاة والسلام - بل عن أول إهلال سمعه ، وذلك أن الناس يأتون متسابقين فعلى هذا لا يكون في هذا اختلاف ، ويكون الإهلال إثر الصلاة .

وأجمع الفقهاء على أن المكي لا يلزمه الإهلال حتى إذا خرج إلى منى ليتصل له عمل الحج ، وعمدتهم ما رواه مالك عن ابن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر : رأيتك تفعل هنا أربعا لم أر أحد يفعلها ، فذكر منها ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت إلى يوم التروية ، فأجابه ابن عمر : أما الإهلال " فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته " يريد حتى يتصل له عمل الحج . وروى مالك أن عمر بن الخطاب كان يأمر أهل مكة أن يهلوا إذا رأوا الهلال .

ولا خلاف عندهم أن المكي لا يهل إلا من جوف مكة إذا كان حاجا ، وإما إذا كان معتمرا فإنهم أجمعوا على أنه يلزمه أن يخرج إلى الحل ثم يحرم منه ليجمع بين الحل والحرم كما يجمع الحاج - أعني : لأنه يخرج إلى عرفة وهو حل ) .

[ ص: 281 ] وبالجملة فاتفقوا على أنها سنة المعتمر ، واختلفوا إن لم يفعل فقال قوم : يجزيه وعليه دم ، وبه قال أبو حنيفة وابن القاسم . وقال آخرون : لا يجزيه وهو قول الثوري وأشهب .

وأما متى يقطع المحرم التلبية ؟ فإنهم اختلفوا في ذلك : فروى مالك أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يقطع التلبية إذا زاغت الشمس من يوم عرفة . وقال مالك : وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا . وقال ابن شهاب : كانت الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يقطعون التلبية عند زوال الشمس من يوم عرفة . قال أبو عمر بن عبد البر : واختلف في ذلك عن عثمان وعائشة . وقال جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث - أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود وابن أبي ليلى وأبو عبيد والطبري والحسن بن حي - : إن المحرم لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة لما ثبت : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة " . إلا أنهم اختلفوا متى يقطعها :

فقال قوم : إذا رماها بأسرها ، لما روي عن ابن عباس " أن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لبى حين رمى جمرة العقبة ، وقطع التلبية في آخر حصاة " .

وقال قوم : بل يقطعها في أول جمرة يلقيها ، روي ذلك عن ابن مسعود .

وروي في وقت قطع التلبية أقاويل غير هذه، إلا أن هذين القولين هما المشهوران .

واختلفوا في وقت قطع التلبية بالعمرة ، وقال مالك : يقطع التلبية إذا انتهى إلى الحرم ، وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : إذا افتتح الطواف .

وسلف مالك في ذلك : ابن عمر وعروة .

وعمدة الشافعي : أن التلبية معناها إجابة إلى الطواف بالبيت فلا تنقطع حتى يشرع في العمل .

وسبب الخلاف : معارضة القياس لفعل بعض الصحابة .

وجمهور العلماء كما قلنا متفقون على إدخال المحرم الحج على العمرة ويختلفون في إدخال العمرة ، على الحج . وقال أبو ثور : لا يدخل حج على عمرة ، ولا عمرة على حج ، كما لا تدخل صلاة على صلاة .

فهذه هي أفعال المحرم بما هو محرم وهو أول أفعال الحج . وأما الفعل الذي بعد هذا فهو الطواف عند دخول مكة فلنقل في الطواف :

التالي السابق


الخدمات العلمية