الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل [ بيع النجش ]

وأما نهيه عليه الصلاة والسلام عن النجش ، فاتفق العلماء على منع ذلك ، وأن النجش هو أن يزيد أحد في سلعة ، وليس في نفسه شراؤها ، يريد بذلك أن ينفع البائع ويضر المشتري; واختلفوا إذا وقع هذا البيع ، فقال أهل الظاهر : هو فاسد ، وقال مالك : هو كالعيب ، والمشتري بالخيار ، إن شاء أن يرد رد ، وإن شاء أن يمسك أمسك; وقال أبو حنيفة ، والشافعي : إن وقع أثم ، وجاز البيع .

وسبب الخلاف هل يتضمن النهي فساد المنهي ؟ وإن كان النهي ليس في نفس الشيء بل من خارج; فمن قال يتضمن فسخ البيع لم يجزه; ومن قال ليس يتضمن أجازه . والجمهور على أن النهي إذا ورد لمعنى في المنهي عنه أنه يتضمن الفساد مثل النهي عن الربا والغرر ، وإذا ورد الأمر من خارج لم يتضمن الفساد .

ويشبه أن يدخل في هذا الباب نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الماء لقوله عليه الصلاة والسلام في بعض ألفاظه : " إنه نهى عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ " ، وقال أبو بكر بن المنذر : ثبت " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الماء ، ونهى عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ " ، وقال : لا يمنع وهو بئر ولا نقع ماء " .

واختلف العلماء في تأويل هذا النهي ، فحمله جماعة من العلماء على عمومه ، فقالوا : لا يحل بيع الماء بحال كان من بئر ، أو غدير ، أو عين في أرض مملكة ، أو غير مملكة ، غير أنه إن كان متملكا كان أحق بمقدار حاجته منه ، وبه قال يحيى بن يحيى قال : أربع لا أرى أن يمنعن : الماء ، والنار ، والحطب ، والكلأ .

وبعضهم خصص هذه الأحاديث لمعارضة الأصول لها ، وهو أنه لا يحل مال أحد إلا بطيب نفس منه كما قال عليه الصلاة والسلام ، وانعقد عليه الإجماع ، والذين خصصوا هذا المعنى اختلفوا في جهة تخصيصه ، فقال قوم : معنى ذلك أن البئر يكون بين الشريكين يسقي هذا يوما وهذا يوما ، فيروي زرع أحدهما في بعض يومه ، ولا يروي في اليوم الذي لشريكه زرعه ، فيجب عليه أن لا يمنع شريكه من الماء بقية ذلك اليوم . وقال بعضهم : إنما تأويل ذلك في الذي يزرع على مائه فتنهار بئره ولجاره فضل ماء أنه ليس لجاره أن يمنعه فضل مائه إلى أن يصلح بئره ، والتأويلان قريبان ، ووجه التأويلين أنهم حملوا المطلق في هذين الحديثين على المقيد ، وذلك أنه نهى عن بيع الماء مطلقا ، ثم نهى عن منع فضل الماء ، فحملوا [ ص: 531 ] المطلق في هذا الحديث على المقيد وقالوا : الفضل هو الممنوع في الحديثين ، وأما مالك فأصل مذهبه أن الماء متى كان متملكة منبعه فهو لصاحب الأرض له بيعه ومنعه ، إلا أن يرد عليه قوم لا ثمن معهم ويخاف عليهم الهلاك ، وحمل الحديث على آبار الصحراء التي تتخذ في الأرضين غير المتملكة ، فرأى أن صاحبها ( أعني : الذي حفرها ) أولى بها ، فإذا روت ماشيته ترك الفضل للناس ، وكأنه رأى أن البئر لا تتملك بالإحياء .

ومن هذا الباب التفرقة بين الوالدة وولدها ، وذلك أنهم اتفقوا على منع التفرقة في المبيع بين الأم وولدها ، لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام : " من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " واختلفوا من ذلك في موضعين : في وقت جواز التفرقة ، وفي حكم البيع إذا وقع . فأما حكم البيع ، فقال مالك : يفسخ ، وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : لا يفسخ ، وأثم البائع والمشتري . وسبب الخلاف هل النهي يقتضي فساد المنهي إذا كان لعلة من خارج ؟ وأما الوقت الذي ينتقل فيه المنع إلى الجواز; فقال مالك : حد ذلك الإثغار; وقال الشافعي : حد ذلك سبع سنين أو ثمان; وقال الأوزاعي : حده فوق عشر سنين ، وذلك أنه إذا نفع نفسه واستغنى في حياته عن أمه .

ويلحق بهذا الباب إذا وقع في البيع غبن لا يتغابن الناس بمثله هل يفسخ البيع أم لا ؟ فالمشهور في المذهب أن لا يفسخ . وقال عبد الوهاب : إذا كان فوق الثلث رد ، وحكاه عن بعض أصحاب مالك ; وجعله عليه الصلاة والسلام الخيار لصاحب الجلب إذا تلقى خارج المصر دليلا على اعتبار الغبن ، وكذلك ما جعل لمنقذ بن حبان من الخيار ثلاثا لما ذكر له أنه يغبن في البيوع ، ورأى قوم من السلف الأول أن حكم الوالد في ذلك حكم الوالدة ، وقوم رأوا ذلك في الأخوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية