الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 105 ] الأولون : لو أفاد العلم لصدقنا كل خبر نسمعه ، ولما تعارض خبران ، ولجاز نسخ القرآن وتواتر السنة به ، ولجاز الحكم بشاهد واحد ، ولاستوى العدل والفاسق ، كالتواتر . واللوازم باطلة ، والاحتجاج بنحو : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون غير مجد ، لجواز ارتكاب المحرم .

                التالي السابق


                قوله : " الأولون " ، أي : احتج الأولون ، وهم القائلون بأنه لا يفيد العلم بوجوه :

                أحدها : لو أفاد خبر الواحد العلم ، لصدقنا كل خبر نسمعه ، لكنا لا نصدق كل خبر نسمعه ; فهو لا يفيد العلم . والملازمة وانتفاء اللازم - وهو تصديقنا كل خبر نسمعه - ظاهران ، غنيان عن البيان .

                الوجه الثاني : لو أفاد خبر الواحد العلم ، لما تعارض خبران ; لأن العلمين لا يتعارضان ، كما لا تتعارض أخبار التواتر ، لكنا رأينا التعارض كثيرا في أخبار الآحاد ، وذلك يدل على أنها لا تفيد العلم .

                الوجه الثالث : لو أفاد خبر الواحد العلم ، لجاز نسخ القرآن وتواتر السنة به ; لأنه علمي مثلهما ، لكن نسخ القرآن وتواتر السنة به لا يجوز ، لضعفه عنهما ; فدل على أنه لا يفيد العلم .

                فأما اختيارنا لنسخ القرآن ، وتواتر السنة به في كتاب النسخ ; فذلك باعتبار القدر المشترك بينهما من الظن ، الذي هو مناط العمل . أما من حيث إنه مساويهما في القوة أو كون ذلك جائزا في المناسبة الحكمية ; فلا .

                الوجه الرابع : لو أفاد خبر الواحد العلم ، لجاز الحكم بشاهد واحد ، ولم يحتج [ ص: 106 ] معه إلى شاهد ثان ، ولا يمين عند عدمه ، ولا إلى زيادة على الواحد في الشهادة بالزنى واللواط ; لأن العلم بشهادة الواحد حاصل ، وليس بعد حصول العلم مطلوب ، لكن الحكم بشهادة واحد بمجرده لا يجوز ، وذلك يدل على أنه لا يفيد العلم .

                الوجه الخامس : لو أفاد خبر الواحد العلم لاستوى العدل والفاسق في الإخبار ، لاستوائهما في حصول العلم بخبرهما ، كما استوى خبر التواتر في كون عدد المخبرين به عدولا أو فساقا ، مسلمين أو كفارا ، إذ لا مطلوب بعد حصول العلم ، وإذا حصل بخبر الفاسق ، لم يكن بينه وبين العدل فرق من جهة الإخبار ، لكن الفاسق والعدل لا يستويان بالإجماع والضرورة ، وما ذاك إلا لأن المستفاد من خبر الواحد إنما هو الظن ، وهو حاصل من خبر الواحد العدل دون الفاسق .

                وهذه الوجوه اشتملت عليها الملازمة المذكورة في قولنا : " لو أفاد العلم لصدقنا كل خبر نسمعه ، ولما تعارض خبران ، ولجاز نسخ القرآن وتواتر السنة به ، ولجاز الحكم بشاهد واحد ، ولاستوى العدل والفاسق " .

                وقولنا : " واللوازم باطلة " ، معناه : أن الجملة المذكورة في " المختصر " تضمنت خمس ملازمات ، قد ظهرت في الوجوه الخمسة هاهنا ، وقد سبق بيان الملازمة وشرحها في مسألة تكليف المحال .

                واللوازم : جمع لازم ، وهو الواقع في جواب " لو " في قولنا : لو كان كذا لكان كذا ، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم ; فاللوازم هاهنا هي تصديقنا كل [ ص: 107 ] خبر نسمعه ، وعدم تعارض الخبرين ، وجواز نسخ القرآن بخبر الواحد ، وجواز الحكم بشاهد واحد ، واستواء العدل والفاسق .

                وانتفاء كل واحد من هذه اللوازم الخمسة يدل على انتفاء ملزومه ، وهو إفادة خبر الواحد العلم ; فهو ملزوم واحد له خمسة لوازم ، وكلها باطلة .

                قوله : " والاحتجاج بنحو : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ الأعراف : 33 ] ، غير مجد " ، أي : غير نافع " لجواز ارتكاب المحرم " ، هذا إشارة إلى حجة القائلين بأن خبر الواحد يفيد العلم ، وبيان ضعفها .

                أما تقرير حجتهم : فهو أن الله تعالى قال : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن إلى قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ الأعراف : 33 ] ، أي : هو محرم عليكم ، فلو لم يفد خبر الواحد العلم ، لكان ذلك كذبا لكونه غير مطابق للواقع ، وهو الكذب وذلك لقول الرواة قد كذبوا على الله عز وجل ، وقالوا عليه بغير علم ، وهو حرام .

                والجواب عن هذه الحجة أن اللازم منها ارتكاب الرواة المحرم ، وهو الكذب على الله عز وجل ، وليس بممتنع عليهم ، ولا هم معصومون منه ، إذ يجوز أن يرتكبوا الكذب المحرم في الرواية ، أقصى ما في الباب : أنهم لإسلامهم ، وظهور عدالتهم ، لا نظن بهم ذلك ، لكن هذا لا يوجب القطع بصدقهم ، بل الظن ، وهو المطلوب .

                وهاهنا جواب آخر لم يذكر في " المختصر " : وهو أنا لا نسلم أن عدم إفادة [ ص: 108 ] خبرهم العلم يستلزم كذبهم ، بل جاز أن يكون ذلك وهما وخطأ في الرواية من غير تعمد ، وذلك مما لا يتعلق به تحريم ولا تحليل .

                تنبيه : الخبر إما تواتر ; فهو مفيد للعلم كما سبق ، أو آحاد مجرد ; فلا يفيد العلم قطعا كما تقرر هاهنا ، أو آحاد احتفت به قرائن أفاد معها العلم ; فهو عند بعضهم واسطة بين المتواتر والآحاد ; فليس تواترا ; لأن المخبر به واحد ، ولا آحادا لإفادته العلم .

                قلت : ويجوز أن يسمى خبر الواحد خاصا ، لاختصاصه بالقرائن .

                وأيضا الخبر إما تواتر : وقد عرف ، أو آحاد : وهو إما مستفيض ، [ أو غير مستفيض ] وهو بقية الآحاد .

                قلت : المستفيض مأخوذ من : فاض الماء والإناء ونحوه : إذا امتلأ ، حتى تبدد الماء من حافاته ، كما سبق في شرح الخطبة . والتحقيق في الخبر المستفيض بموجب هذا الاشتقاق ، وبموجب عرف الناس : أنه الخبر الشائع الذائع ، المنتشر في الناس انتشارا يبعد معه الكذب عادة ، وهو الذي يثبت به الموت ، والنسب ، والملك المطلق ، والنكاح ، والوقف ومصرفه ، والعتق ، والولاء ، والولاية ، والعزل ، والخلع ، والطلاق على الصحيح فيه من حيث النظر .

                فأما من اعتبر فيه عددا يقع العلم بخبره على ظاهر كلام أحمد والخرقي ; فهو اعتبار التواتر فيه ، وليس بمعتبر في الاستفاضة .

                وأما اكتفاء القاضي فيه باثنين فصاعدا ، وقول من قال : ثلاثة فصاعدا ; فليس لأن المستفيض ذلك ، بل لأن الغالب فيما أخبر به اثنان أو ثلاثة فصاعدا أنه مستفيض [ ص: 109 ] عند هذا القائل ، وهو ممنوع . والتحقيق في المستفيض ما ذكرناه .



                تنبيه : اعلم أن أخبار الآحاد الصحيحة ، المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمها المحدثون إلى سبعة أقسام :

                أحدها : أحاديث البخاري ومسلم : وهو المعبر عنه في عرفهم بالمتفق عليه .

                وثانيها : ما انفرد به البخاري عن مسلم .

                وثالثها : ما انفرد به مسلم عن البخاري .

                ورابعها : ما خرجه الأئمة بعدهما على شرطهما .

                وخامسها : ما خرج على شرط البخاري وحده .

                وسادسها : ما خرج على شرط مسلم وحده .

                وذلك كما في المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم وغيره .

                ومعنى التخريج على شرطهما ، أو شرط أحدهما : أنهما - أعني البخاري ومسلما - اختلفا في رواة الحديث ، لاختلاف صفاتهم المعتبرة عندهما ; فاتفقا على الإخراج عن طائفة من الرواة ، وانفرد البخاري بالرواية عن طائفة من الرواة ، وانفرد مسلم بالرواية عن طائفة . فزعم المستدركون عليهما : أنهم قد وجدوا أحاديث قد رواها من خرجا عنه ، اتفاقا وانفرادا ، ومن يساوي من خرجا عنه ; فخرجوها ، وقالوا : هذا استدراك عليهما على شرطهما ، أو شرط واحد [ ص: 110 ] منهما .

                وسابعها : ما أخرجه بقية الأئمة ، كأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وغيرهم من أئمة الحديث .

                وأعلى هذه الأقسام : الأول وهو المتفق عليه ، وقد اختلف في إفادته العلم ; فزعم ابن الصلاح أنه كان يقول بإفادته الظن ، ثم تبين له خطأ ذلك القول ، وظهر له أنه يفيد العلم .

                قال : لأن الأمة أجمعت على تلقي ما في " الصحيحين " بالقبول ، وأنه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة معصوم من الخطأ .

                قلت : وهذا لا يتحصل منه المقصود ; فإنا نقطع بالفرق بين حديث : الأعمال بالنيات ، وهو من أشهر المتفق عليه ، وبين غزاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدرا وأحدا وحنينا . [ ص: 111 ] والعلميات لا تتفاوت ، حتى يظهر الفرق بين بعض أخبارها وبعض ، وإذا كانت خطبة حجة الوداع لم يحصل العلم بوقوعها ، بل هي في عداد الآحاد ، مع وقوعها بين العالم المجتمعين في الحج ; فما الظن ببقية الأخبار التي لم يسمعها إلا الواحد والاثنان .

                والتحقيق في أحاديث " الصحيحين " أنها مفيدة للظن القوي الغالب ، لما حصل فيها من اجتهاد الشيخين - رحمهما الله تعالى - في نقد رجالها ، وتحقيق أحوالها ، أما حصول العلم بها ; فلا مطمع فيه ، وذلك في غيرها من الأقسام الأخر أولى ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية