الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 273 ] الثانية : يجوز نسخ التلاوة ، والحكم ، وإحكامهما ، ونسخ اللفظ فقط وبالعكس ، إذ اللفظ والحكم عبادتان متفاصلتان ; فجاز نسخ إحداهما دون الأخرى ، ومنع قوم الثالث ، إذ اللفظ أنزل ليتلى ويثاب عليه ; فكيف يرفع ، وآخرون الرابع ، إذ الحكم مدلول اللفظ ; فكيف يرفع مع بقاء دليله .

                وأجيب عن الأول : بأن التلاوة حكم ، وكل حكم فهو قابل للنسخ . وعن الثاني : بأن اللفظ دليل قبل النسخ لا بعده . ثم قد نسخ لفظ آية الرجم دون حكمها ، وحكم وعلى الذين يطيقونه دون لفظها ، والله أعلم .

                التالي السابق


                المسألة " الثانية : يجوز نسخ التلاوة والحكم " ، أي : اللفظ والحكم جميعا ، وإحكامهما ، بكسر الهمزة ، أي : إبقاؤهما محكمين غير منسوخين ، " ونسخ اللفظ فقط " دون المعنى ، " وبالعكس " ، أي : نسخ المعنى دون اللفظ ، وهذه قسمة رباعية .

                قوله : " إذ اللفظ والحكم " ، إلى آخره . هذا دليل على جواز نسخ كل واحد من اللفظ والحكم دون الآخر .

                وتقريره : أن اللفظ والحكم عبادتان متفاصلتان ، أي : تنفصل إحداهما في التعبد بها عن الأخرى فعلا ; فجاز نسخ إحداهما دون الأخرى ، كسائر العبادات المتفاصلة .

                وبيان تفاصل اللفظ والمعنى ، هو أن اللفظ متعبد بتلاوته ، والحكم متعبد بامتثاله ، وهذا هو مرادنا بتفاصلهما ، لا أن أحدهما يمكن انفصاله عن الآخر حسا .

                [ ص: 274 ] قوله : " ومنع قوم الثالث " ، وهو نسخ اللفظ دون المعنى ، واحتجوا بأن اللفظ أنزل ليتلى ، ويثاب عليه ; فكيف يرفع ، أي : فلو رفع ، لانتفت حكمة إنزاله .

                قوله : " وآخرون " ، أي : ومنع آخرون " الرابع " ، وهو نسخ المعنى دون اللفظ ، واحتجوا بأن الحكم مدلول اللفظ ; فكيف يرفع المدلول مع بقاء دليله ، أي : لو رفع الحكم مع بقاء دليله ، وهو اللفظ ، لبقي الدليل بلا مدلول ، وهو محال ، أو عبث ، إذ فائدة الدليل الدلالة ; فلو رفع مدلوله ، لبقي عريا عما يدل عليه ، وانتفت فائدته ، ولا معنى للعبث إلا وجود شيء بغير فائدة .

                قوله : " وأجيب عن الأول " ، أي : عما احتج به من منع نسخ اللفظ دون الحكم ، بأن التلاوة حكم ، وكل حكم فهو قابل للنسخ .

                أما أن التلاوة حكم ، والمراد بها متعلق الحكم ; فلأنه يجب تلاوتها في الصلاة ، وتصح وتنعقد بها ، وتستحب كتابتها ، والوجوب ، والصحة ، والاستحباب أحكام متعلقة بالتلاوة ; فهي حكم أو في معنى الحكم .

                وأما أن كل حكم ; فهو قابل للنسخ ; فلما سبق في إثبات النسخ ، من جواز تحريم الواجب ، وإيجاب المحرم ، وكراهة المندوب ، وندب المكروه ، بناء على ورود أمر الشارع ونهيه بذلك ، تحصيلا للمصالح ، ودفعا للمفاسد ، وتحقيقا للامتحان ، وهذا في الحقيقة دليل مبتدأ على جواز ما منعوه ، لا جواب عن دليلهم .

                وأما قولهم : " أنزل اللفظ ليتلى ; فكيف يرفع ؟ " فلا استحالة فيه ، ولا استبعاد ، لجواز أن تكون المصلحة في تلاوته وقتا دون وقت ، كغيره من الأحكام المنسوخة .

                [ ص: 275 ] قوله : " وعن الثاني " ، أي : وأجيب عن الثاني - وهو دليل المانعين لنسخ الحكم دون اللفظ ، وهو قولهم : الحكم مدلول اللفظ ; فكيف يرفع المدلول مع بقاء دليله - بأن اللفظ دليل الحكم قبل النسخ ، أما بعد النسخ ; فلا يبقى دليلا عليه حتى يلزم ما ذكرتم من بقاء الدليل بدون مدلوله ، بل يبقى عبادة مستقلة ، يتلى ، ويصلى به ، ويثاب عليه ، وغير ذلك من الأحكام المتعلقة به .

                وتحقيق هذا أن لفظ القرآن له جهتان ، هو من إحداهما دليل على معناه ، ومن الجهة الأخرى هو عبادة مستقلة ، فإذا انتفت جهة كونه دليلا على معناه بنسخه ، بقيت جهة كونه عبادة مستقلة .

                قوله : " ثم قد نسخ لفظ آية الرجم دون حكمها " ، وذلك أنه صح في السنة أنه كان من جملة القرآن المتلو : " لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم " ، " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " . فنسخ لفظها ، وبقي حكمها [ ص: 276 ] في رجم المحصنين إذا زنيا ، وصح عن عمر أنه قال : " لولا أن يقال : زاد عمر في القرآن ، لأثبتها في المصحف ، " وذلك لأن بنسخ لفظها خرجت عن أن تستحق أن [ ص: 277 ] تثبت في المصحف ، لا أنها ليست من القرآن بالأصالة ; فهذا دليل نسخ اللفظ دون الحكم .

                فإن قيل : لا نسلم أن الرجم ثابت بهذه الآية ، بل إنما ثبت بقوله عليه السلام في حديث عبادة رضي الله عنه : خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام ، والثيب بالثيب الرجم .

                قلنا : بل هذا مقرر لحكم تلك الآية ، ومعرف أنه لم ينسخ . وقد يضعف هذا بوجهين :

                أحدهما : أن حمل الحديث على التأسيس ، وإثبات الرجم ابتداء ، أولى من حمله على تأكيد حكم الآية المنسوخة .

                الوجه الثاني : أن الحديث ورد مبينا للسبيل المذكور في قوله تعالى : حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [ النساء : 15 ] ; فدل على أنه غير متعلق بآية الرجم ، بل هو إما مستقل بإثبات الرجم ، أو مبين للسبيل في الآية الأخرى .

                وكذلك نسخ حكم قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه [ البقرة : 185 ] ، دون لفظها ، وهو دليل على جواز نسخ الحكم ، دون اللفظ ، وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام مخيرين بين أن يصوموا ، وبين أن يفطروا ، مع قدرتهم على الصوم ، ويطعموا مسكينا عن كل يوم ، عملا بمقتضى قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ ص: 278 ] فنسخ ذلك التخيير ، بتعيين الصوم للقادر عليه ، بقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ البقرة : 185 ] ، وبقيت الرخصة في حق العاجز عن الصوم ، لكبر ، أو مرض ، أو حمل ، أو رضاع ، كذلك رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس وغيره .

                وحيث وقع نسخ اللفظ دون المعنى ، ونسخ المعنى دون اللفظ ، دل ذلك على الجواز قطعا ، دلالة الملزوم على اللازم .

                وقال الآمدي في هذه المسألة : اتفق الأكثرون على جواز نسخ التلاوة والحكم ، ونسخ أيهما كان دون الآخر ، خلافا لبعض المعتزلة ، يعني أنهم خالفوا في [ ص: 279 ] المسائل الثلاث . واحتج على جواز نسخ أيهما كان ، بنحو ما ذكرناه ، وعلى جواز نسخهما جميعا ، بنسخ تحريم الرضاع بعشر رضعات ; فإنه كان منزلا كما روت عائشة رضي الله عنها ، ثم نسخ مع آيته .

                تنبيه : اختلف فيما نسخت تلاوته ، نحو " الشيخ والشيخة " هل للجنب تلاوته ، وللمحدث مسه أم لا ؟ قال الآمدي : الأشبه المنع .

                قلت : بل الأشبه الجواز ; لأن الدليل إنما قام على منع ذلك في القرآن ، والقرآن ما ثبت بالتواتر من الوحي المنزل للإعجاز ، وما نسخت تلاوته ليس كذلك ; فبقي على أصل الإباحة ، أو داخل تحت دليلها ، والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية