الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 296 ] الخامسة :

                يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل ، خلافا لقوم . لنا : الرفع لا يستلزم البدل ، ولا يمتنع رد المكلف إلى ما قبل الشرع ، ثم تقديم الصدقة أمام النجوى وغيره نسخ لا إلى بدل . قالوا : نأت بخير منها يقتضيه . قلنا : لفظا لا حكما ، أو نأت منها بخير ، على التقديم والتأخير .

                ونسخ الحكم بأخف منه إجماعا .

                وبمثله ، لا يقال : هو عبث . لأنا نقول : فائدته امتحان المكلف بانتقاله من حكم إلى حكم .

                وبأثقل منه ، خلافا لبعض الظاهرية . لنا : لا يمتنع لذاته ، ولا لتضمنه مفسدة ، وقد نسخ التخيير بين الفدية والصيام إلى تعيينه ، وجواز تأخير صلاة الخوف إلى وجوبها فيه ، وترك القتال إلى وجوبه ، وإباحة الخمر ، والحمر الأهلية والمتعة إلى تحريمها . قالوا : تشديد ; فلا يليق برأفة الله تعالى ، الآن خفف الله عنكم ، يريد الله بكم اليسر ، أن يخفف عنكم . قلنا : منقوض بتسليطه المرض والفقر وأنواع الآلام والمؤذيات . فإن قيل : لمصالح علمها . قلنا : فقد أجبتم عنا ، والآيات وردت في صور خاصة .

                التالي السابق


                المسألة " الخامسة : يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل " عند الأكثرين ، " خلافا لقوم " ، وهم الأقلون .

                " لنا : الرفع لا يستلزم البدل " ، إلى آخره . هذا دليل الجواز ، وهو من وجهين :

                أحدهما : أن النسخ رفع الحكم ، والرفع لا يستلزم البدل ، بل يمكن وجوده بدون بدل ، واعتبر ذلك بالمحسوسات ; فإنه ليس من ضرورة رفع الحجر من مكانه أنه يضع [ ص: 297 ] مكانه غيره ، بل ذلك على الجواز ، وكذلك وقع النسخ في الشريعة ، تارة إلى البدل ، وتارة لا إلى بدل .

                وأيضا : لا يمتنع أن يعلم الله تعالى مصلحة المكلف في نسخ الحكم عنه لا إلى بدل ، ورده إلى ما قبل الشرع من إباحة أو حظر أو وقف ، على ما سبق من الخلاف .

                الوجه الثاني : لو لم يكن النسخ لا إلى بدل جائزا ، لما وقع ، لكنه قد وقع ; فيكون جائزا ، وإنما قلنا : إنه وقع في الشرع ; لأن تقديم الصدقة أمام النجوى ، أي : بين يدي النجوى ، وغيره من الأحكام ، نسخ لا إلى بدل .

                وشرح ذلك : أن الصحابة رضي الله عنهم أكثروا من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم .

                قال ابن عطية : روي عن ابن عباس وقتادة في سببها : أن قوما من شباب المؤمنين ، كثرت مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، في غير حاجة ، إلا لتظهر منزلتهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمحا لا يرد أحدا ; فنزلت هذه الآية مشددة عليهم أمر المناجاة .

                وقال مقاتل : نزلت في الأغنياء ; لأنهم غلبوا الفقراء على مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومجلسه ، ثم نسخ ذلك .

                قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة والكلبي في قوله : إذا ناجيتم الرسول [ المجادلة : 12 ] ، قالا : إنها منسوخة ، ما كانت إلا ساعة من نهار . قال الكلبي : جاء علي رضي الله عنه بدينار ; فتصدق به ، وكلم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وأمسك الناس عن كلام النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل التخفيف ; فقال : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات حتى بلغ : خبير بما تعملون [ المجادلة : 13 ] .

                [ ص: 298 ] فإن قيل : لا نسلم أن الصدقة بين يدي النجوى نسخت لا إلى بدل ; لأنه سبحانه وتعالى يقول في الآية الناسخة : فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله [ المجادلة : 13 ] ; فكانت هذه الأشياء بدل الصدقة .

                قلنا : ليست هذه أبدالا ; لأنها كانت واجبة قبل ذلك ، بموجب أصل التكليف ، وإنما معنى الآية : إذ لم تفعلوا ; فارجعوا إلى ما كنتم عليه أولا ، من إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الرسول .

                ومما يذكر من أمثلة النسخ لا إلى بدل : نسخ وجوب الإمساك بعد النوم في الليل ، وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام ، متى نام أحدهم قبل أن يفطر ، حرم عليه الأكل حتى الليلة الثانية ; فخفف ذلك عنهم ، بنسخه بإباحة الأكل إلى طلوع الفجر ، من غير بدل .

                ومن ذلك نسخ اعتداد المتوفى عنها حولا ، باعتدادها أربعة أشهر وعشرا ; فتمام الحول نسخ لا إلى بدل .

                ومن ذلك نسخ النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث بقوله عليه السلام : [ ص: 299 ] إنما نهيتكم من أجل الدافة ; فكلوا وادخروا ما شئتم . وهو إلى غير بدل .

                وبعضهم يمنع كون هذا نسخا ، والصحيح أنه نسخ لدخوله في حد النسخ ، وكونه ثبت لحكمة ، ثم زال بزوالها ، لا يمنع كونه نسخا ، إذ سائر صور النسخ كذلك .

                قوله : " قالوا : نأت بخير منها يقتضيه " . هذا دليل الخصم .

                وتقريره : أن قوله سبحانه وتعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ البقرة : 106 ] ، يقتضي أن النسخ لا بد أن يكون إلى بدل كما يقال : ما تبع من جارية أو غلام ، تشتر خيرا منه ، أو مثله .

                قوله : " قلنا : لفظا لا حكما " . هذا جواب عن الدليل المذكور من وجهين :

                أحدهما : أن لزوم البدل في نسخ الآية لفظا لا حكما ، يعني أنه ينسخ آية بآية ; فلفظ الآية الناسخة بدل عن لفظ المنسوخة ، كقوله عز وجل : وإذا بدلنا آية مكان آية [ النحل : 101 ] ، لا أنه أراد أن أي حكم نسخناه ، أبدلنا مكانه حكما ، ولا يلزم من البدل اللفظي البدل الحكمي .

                الوجه الثاني : أنه قد قيل : إن في الكلام تقديما وتأخيرا . والتقدير : ما ننسخ من آية : نأت منها بخير ، أي : نأت من نسخها بخير للمكلفين ، وهو تخفيف حكمها بالنسخ ، أو غير ذلك من المصالح ، هذا الذي ذكر في " المختصر " .

                [ ص: 300 ] وههنا جوابان آخران : أحدهما : لا نسلم أن الآية تقتضي بدلا في النسخ أصلا ; لأن الإتيان ببدل الآية مثلها ، أو خيرا منها ، وقع جوابا للشرط ، الذي هو النسخ ; فهو مشروط له ، والمشروط ملزوم للشرط ، ولا يلزم من انتفاء الملزوم انتفاء اللازم ، ولا ثبوته ; فانتفاء البدل في النسخ ، لا يدل على انتفاء اللازم ولا ثبوته ، وإذا لم يكن لانتفاء البدل دلالة على النسخ ، نفيا ولا إثباتا ، جاز أن يوجد النسخ بدون البدل ، وهو المطلوب .

                الوجه الثاني : سلمنا أنه لا بد في النسخ من بدل ، قد يكون في [ غير ] المصلحة ; فيكون عدم بدل الحكم أصلح للمكلف ; فهذه المصلحة بدل عن مصلحة المنسوخ ، وإن لم يخلفه حكم ; لأنها مصلحة عدمية ، أي : ناشئة عن عدم الحكم .

                وأجاب القرافي عن الآية : بأنها صيغة شرط ، ولا يلزم في الشرط أن يكون ممكنا ، بل قد يكون محالا ، كقولنا : إن كان الواحد نصف العشرة ; فالعشرة اثنان ; فهذا شرط محال ، والكلام عربي صحيح ، وإذا لم يستلزم الشرط الإمكان ، لم يدل على الوقوع مطلقا ; فضلا عن الوقوع ببدل .

                قوله : " ونسخ الحكم بأخف منه " ، أي : يجوز نسخ الحكم بأخف منه بالإجماع ; لأنه تخفيف عن المكلف ، وهو فضل من الله سبحانه وتعالى غير ممتنع ، بل هو عام الجود على خلقه .

                قوله : " وبمثله " ، أي : ويجوز نسخ الحكم بمثله في الخفة والثقل .

                قوله : " لا يقال : هو عبث " هذا تقرير سؤال على هذه الدعوى ، وهو أن يقال : نسخ الحكم بمثله عبث ; لأن كل واحد من المثلين يسد مسد الآخر ; فالنقل عنه [ ص: 301 ] إلى مثله من غير فائدة زائدة عبث ، وترجيح من غير مرجح .

                قوله : " لأنا نقول " هذا جواب السؤال المذكور .

                وتقريره : لا نسلم أن نقل المكلف عن حكم إلى مثله لا فائدة له ، بل فائدته امتحان المكلف ، بانتقاله من حكم إلى حكم ، وفي ذلك دليل على انقياده ، وطاعته ، وعدم مخالفته . فإنا لو قدرنا أن الشرع قال لنا الآن : لا تصلوا الظهر بعد زوال الشمس ، بل صلوها قبل الزوال ، أو صلوا الفجر بعد طلوع الشمس . فبادر قوم إلى ذلك ، وتوقف قوم ; فقالوا : حقيقة الزمان واحدة ; فما الفرق بين بعد الزوال وقبله ، وبين طلوع الشمس وبعده ، حتى ينقلها إليه ؟ لكان المبادرون إلى الامتثال أفضل وأطوع ، لتركهم الاعتراض ، بل لو قال قائل : لم وجبت الظهر بعد الزوال ولم تجب قبله ؟ وما الفرق بين الزمانين مع تماثلهما ؟ لعد معترضا متكلفا ; فكان من لا يعترض بذلك أفضل منه ، لسكوته عن التعرض ، وانقياده للتعبد .

                وفي الحديث : المؤمن كالجمل الأنف حيث قيد انقاد .

                ومثل هذا ، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، أصحابه بالإحلال من الحج بالحديبية ، توقفوا عن امتثال أمره ; فغضب لعدم مبادرتهم ، لكونه أمرهم بخلاف ما اعتادوه ، ثم لما [ ص: 302 ] امتثلوا حلق قوم ، وقصر آخرون ، فقال : اللهم اغفر للمحلقين ; فقيل له : والمقصرين ؟ فقال في الثالثة : وللمقصرين . فقيل له : استغفرت للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة ؟ فقال : لأن المحلقين لم يشكوا . قوله : " وبأثقل منه " ، أي : ويجوز نسخ الحكم بأثقل منه ، " خلافا لبعض الظاهرية " .

                [ ص: 303 ] قال الآمدي : ومنع منه أيضا بعض الشافعية .

                قوله : " لنا : لا يمتنع " ، إلى آخره ، أي : لنا على جواز النسخ إلى الأثقل وجهان :

                أحدهما : أنه لو امتنع ، لامتنع لذاته ، أو لتضمنه مفسدة ، لكنه لا يمتنع لواحد منهما ; فلا يمتنع أصلا .

                وإنما قلنا : إنه لا يمتنع لذاته ; لأنه لو قدر وقوعه ، لم يلزم منه محال لذاته ، بل قد وقع ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولم يلزم منه محال ; فدل على أنه لا يمتنع لذاته ، أي : لكونه نسخا للأخف إلى الأثقل .

                وإنما قلنا : إنه لا يمتنع لتضمنه مفسدة ; لأن الأصل عدم المفسدة فيه ، وما يدعيه الخصم مفسدة فيه ، سنجيب عنه إن شاء الله عز وجل ، بل قد يتضمن مصلحة عظيمة ، وهو تدريج المكلف من الأخف إلى الأثقل ; فيسهل عليه ، ولا يتبرم به ; فبان بما ذكرناه أن ذلك لا يمتنع لذاته ولا لغيره ; فلا يكون ممتنعا أصلا ; فيكون جائزا .

                الوجه الثاني : أن ذلك قد وقع ، والوقوع دليل الجواز . وبيان وقوعه بصور :

                إحداهن : نسخ التخيير بين الفدية والصيام إلى تعيينه ; فإنهم كانوا في صدر الإسلام ، يخير أحدهم بين أن يصوم ، وبين أن يفطر ويطعم ; فنسخ ذلك إلى وجوب الصيام عينا ، وذلك أثقل من التخيير بين الأمرين .

                الصورة الثانية : تأخير صلاة الخوف حال القتال إلى وجوبها على حسب الإمكان بقوله تعالى : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [ البقرة : 239 ] ، وكان لهم قبل ذلك تأخيرها حتى ينقضي القتال ، ووجوبها في وقته أثقل .

                الصورة الثالثة : نسخ ترك القتال إلى وجوبه ، فإن القتال كان متروكا في أول [ ص: 304 ] الإسلام ، بقول الله تعالى : فأعرض عنهم [ النساء : 81 ] ، فاعف عنهم واصفح [ المائدة : 13 ] ، فاعفوا واصفحوا [ البقرة : 109 ] ، ثم نسخ بوجوبه بقوله سبحانه وتعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا [ الحج : 39 ] ، قاتلوهم [ التوبة : 14 ] ، واقتلوهم [ البقرة : 191 ] ، ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين [ التحريم : 9 ] ، وأشباه ذلك ، ووجوب القتال أثقل من تركه .

                الصورة الرابعة : أن الخمر ، والحمر الأهلية ، ومتعة النكاح ، كانت كلها مباحة ; فنسخت إباحتها إلى التحريم ، وهو أثقل .

                وذكر الآمدي صورتين أخريين :

                [ ص: 305 ] إحداهما : نسخ حبس الزانية في البيت حتى تموت ، وتعنيف الزاني ، بإيجاب الحد رجما ، أو جلدا وتغريبا ، وهو أثقل ، وذلك أن حكم الزاني كان في صدر الإسلام ، إن كان امرأة ، حبست حتى تموت ، وإن كان رجلا ، عنف ، وأوذي بالقول ، عملا بقوله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت إلى قوله : واللذان يأتيانها منكم فآذوهما [ النساء : 15 - 16 ] ، أي بالتعنيف والذم ; فنسخ ذلك بآية الرجم ، وآية النور ، في جلد البكر وغيره .

                الصورة الثانية : نسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان .

                قلت : وهذا بناء على أن صوم عاشوراء كان واجبا ، ثم نسخ ، وهو ظاهر من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصومه ، فلما قدم المدينة ، صامه ، وأمر الناس بصيامه ، فلما افترض رمضان ، كان رمضان هو الفريضة ، وترك عاشوراء ; فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه . متفق عليه . وأخرجه أبو داود والنسائي والترمذي ، وصححه ، واللفظ له ، وهو متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .

                قوله : " قالوا : تشديد " ، إلى آخره . هذا دليل المانعين ، وهو من وجهين :

                أحدهما : أن النسخ إلى الأثقل تشديد على المكلف ، وذلك لا يليق برأفة الله عز وجل ورحمته ; لأن شأنه التسهيل على خلقه ، لا التشديد عليهم .

                [ ص: 306 ] الوجه الثاني : النصوص الدالة على التخفيف والتيسير ، نحو قوله سبحانه وتعالى : الآن خفف الله عنكم [ الأنفال : 66 ] ، يعني خفف عنكم ثبات الواحد لعشرة في الجهاد ، بالاقتصار على ثباته لاثنين .

                وقوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ البقرة : 185 ] ، وقوله سبحانه وتعالى : يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ النساء : 28 ] .

                وقوله : يريد الله بكم اليسر ، أن يخفف عنكم ، استعمال اللفظ ( يريد الله ) في الآيتين على جهة الاستخدام .

                قالوا : والنسخ إلى الأثقل عسر ، والله عز وجل قد أخبر أنه لا يريده ، وما لا يريده يستحيل وقوعه ; فالنسخ إلى الأثقل يستحيل وقوعه ، وهو المطلوب .

                قوله : " قلنا : منقوض " ، إلى آخره ، هذا جواب عن الوجهين .

                أما عن الأول - وهو قولهم - تشديد لا يليق بالرأفة الإلهية - : فبأنه " منقوض بتسليطه المرض والفقر وأنواع الآلام ، والمؤذيات على الخلق " ، مع أنه تشديد عليهم ; فكان ينبغي أن لا يقع ، وحيث وقع ; فالنسخ إلى الأثقل مثله ; فليكن وقوعه جائزا .

                قوله : " فإن قيل : لمصالح علمها " ، هذا جواب من الخصم عن النقض المذكور .

                وتقريره : أن النقض بالمرض ، والفقر ، والآلام ، لا يلزمنا ; لأن ابتلاءه الخلق [ ص: 307 ] بذلك ، لمصالح علمها لهم فيه .

                قوله : " قلنا : فقد أجبتم عنا " ، أي : هذا الجواب مشترك بيننا وبينكم ; فهو جوابنا عن كون النسخ إلى الأثقل تشديدا ، وهو أن نقول : النسخ إلى الأثقل لمصلحة علمها فيه ، كما أن ابتلاءه لهم بالمرض ، وسائر المكاره ، لمصالح علمها لهم فيه ، ثم ما ذكروه من التشديد منتقض عليهم أيضا بأصل التكليف ; فإنه تشديد ، وتركه أسهل عليهم ; فمقتضى قولهم : عدم التكليف بالكلية ، لكنه قد ثبت باتفاق ، كالصلاة ، والزكاة ، والحج ، وسائر العبادات الدينية ، والاعتقادية ، والعملية .

                قوله : " والآيات وردت في صور خاصة " ، يعني الآيات الواردة في التخفيف ، وردت في أحكام خاصة ، وليست عامة ، حتى يحتج بعمومها على منع النسخ إلى الأثقل .

                أما قوله : الآن خفف الله عنكم [ الأنفال : 66 ] ; فهي في الجهاد كما ذكر ، بدليل ما قبلها وبعدها ، وهو قوله عز وجل : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين إلى قوله عز وجل : وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين [ الأنفال : 66 ] ، وأما قوله عز وجل : يريد الله أن يخفف عنكم ; فهي في سياق نكاح الأمة ، لمن لم يجد طول حرة ، ثم هي مطلقة ، لا عموم للفظها .

                وأما قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر [ البقرة : 185 ] ; فهو في سياق تخفيف الصوم عن المريض والمسافر ، واللام في اليسر والعسر وإن احتمل أنها للاستغراق ، لكنها محمولة على المعهود ، وهو اليسر الحاصل بالإفطار ، للمريض والمسافر ، والعسر الحاصل لهما بالصوم في حالة المرض والسفر . على أن ابن الخشاب حكى في " المرتجل " عن بعض أهل العلم ، أن الكلام متى كان فيه [ ص: 308 ] معهود ، تعين رجوع اللام إليه ، وإنما يحمل على الاستغراق إذا انتفى المعهود ، والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية