الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 148 ]

                وبالاستدلال : قيل : احتراز من علم الله عز وجل ورسوليه جبريل ومحمد عليهما السلام ، فإنه ليس استدلاليا . وقيل : بل هو استدلالي ، لأنهم يعلمون الشيء على حقيقته ، وحقائق الأحكام تابعة لأدلتها وعللها . فعلى هذا يكون احترازا عن المقلد . فإن علمه ببعض الأحكام ليس استدلاليا . وفيه نظر ، إذ المقلد يخرج بقوله : عن أدلتها التفصيلية ، لأن معرفته بعض الأحكام ، ليس عن دليل أصلا . ويمكن أن يقال : يجوز أن يكون علمه بها عن دليل حفظه ، كما حفظها ، فيحتاج إلى إخراجه بالاستدلال ، لأن علمه وإن كان عن دليل ، لكنه ليس بالاستدلال ، إذ الاستدلال يستدعي أهليته ، وهي منتفية في المقلد ، وإلا لم يكن مقلدا .

                التالي السابق


                قوله : " وبالاستدلال قيل : احتراز من علم الله تعالى ورسوليه جبريل ومحمد عليهما السلام ، فإنه ليس استدلاليا ، وقيل : بل هو استدلالي ، لأنهم يعلمون الشيء على حقيقته ، وحقائق الأحكام تابعة لأدلتها وعللها " .

                معنى هذا الكلام أننا بعد إلى الآن في بيان الاحترازات التي اشتمل عليها حد الفقه المذكور ، وقد تكلمنا على جميعها شيئا فشيئا ، إلا قوله : " عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال " فنبين قوله : " بالاستدلال " عن أي شيء احترز به .

                فقال بعض الأصوليين : الاحتراز به عن علم الله سبحانه وتعالى ، وعلم رسوليه : جبريل عليه السلام ، لأنه رسول الله إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه رسول الله إلى الخلق ، وعلم هؤلاء ليس استدلاليا ، أي ليس هو حاصل بالاستدلال ، لأن علم الله سبحانه وتعالى ذاتي عام التعلق بالأشياء ، مخالف لعلومنا الضرورية والنظرية ، وعند من يرى أنه سبحانه وتعالى عالم لذاته ، [ ص: 149 ] أنه ليس هناك إلا ذات مجردة ، والذات لا توصف بضرورة ولا استدلال ، وعلم جبريل عليه السلام ، وحي يتلقاه من البارئ جل جلاله ، أو من اللوح المحفوظ ، أو غيره ، وعلم محمد صلى الله عليه وسلم ، وحي يتلقاه عن جبريل ، فلا يحتاجان فيه إلى الاستدلال ، لأن القطع لهما بكونه من الله سبحانه وتعالى وبمراده منه حاصل ، ومع القطع ، تبطل فائدة الاستدلال .

                فعلى هذا لو لم يقل : بالاستدلال ، لدخلت هذه العلوم في حد الفقه ، لأنها علم بأحكام شرعية عن أدلة تفصيلية ، لكنها لا تسمى فقها شرعا ولا عرفا ، فاحتيج إلى إخراجها بقيد الاستدلال ، لأن تلك العلوم ليست بالاستدلال .

                ويعني بكونها عن أدلة تفصيلية : أنها مستندة إلى الأدلة في نفس الأمر .

                وقال بعض الأصوليين : " بل هو استدلالي " يعني علم الله تعالى ورسوليه ، " لأنهم يعلمون الشيء على حقيقته " أي على ما هو به " وحقائق الأحكام تابعة لأدلتها وعللها " فكما يعلمون حقيقة الحكم ، يعلمون كونه تابعا لدليله وعلته وأنها كذا ، فكما يعلمون مثلا وجوب الكفارة على الواطئ في نهار رمضان ، يعلمون أن علة الوجوب عموم إفساد الصوم أو خصوصه بالوطء ، وكما يعلم الله سبحانه تحريم الربا في الأشياء الستة ، يعلم أن علة التحريم الكيل أو الوزن أو الطعم أو الاقتيات مع الجنس ، وكما علم النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الشفعة للشريك المخالط ، علم أن علة الوجوب خصوص الضرر بشريكه حتى يقتصر على المقاسم ، أو عمومه حتى يتعدى إلى الملاصق ، ونظائر ذلك كثيرة .

                قلت : وهذا لا يدل على أن علم الله تعالى ورسوليه استدلالي ، لأن المراد بالاستدلالي ، ما لا يحصل إلا باستدلال ، وهو النظر في مقدمات الدليل ، [ ص: 150 ] كقولنا : هذا مفسد للصوم ، فناسب عقوبته بالكفارة ، ونحو ذلك من الأشكال الاستدلالية ، والعلوم المذكورة ليست كذلك .

                وأما علمهم بالحكم وعلته ودليله ، فلا يلزم منه أن علومهم استدلالية ، لجواز أن يحصل العلم بالحكم بدون النظر في دليله وعلته ، كالإلهاميات والبديهيات ، فإن العلم يحصل بها هجوما على النفس ، بدون نظر ولا استدلال ، وفيها ما لو أراد العاقل أن يستخرج علته لتعذر عليه .

                والتحقيق في هذا المقام ، التوسط ، وهو أن علم الله سبحانه بالأحكام ، ليس استدلاليا لما تقدم ، وعلم ملائكته ورسله عليهم السلام وغيرهم استدلالي ، غير أن الاستدلالي في علم الملائكة والرسل ، أظهر منه في غيرهم ، لقلة ما يتوقف عليه من المقدمات .

                بيان ذلك ، أن أقل ما يحصل منه العلم الاستدلالي ، مقدمتان ، فإذا قال الله سبحانه وتعالى لجبريل عليه السلام : قد أوجبت الصلاة على بني آدم ، فانزل بذلك إليهم ، فعلم جبريل عليه السلام بوجوب الصلاة مسبوق بمقدمتين :

                إحداهما : أن الآمر له بذلك هو الله جل جلاله .

                والثانية : أن كل ما أمر الله سبحانه وتعالى به ، فهو واجب ، أو أن الموجب للصلاة ، هو الله تعالى ، وكل ما أوجبه الله سبحانه وتعالى ، فهو معلوم الوجوب ، فإذا نزل جبريل بذلك إلى الرسول صلوات الله عليهما ، وأخبره بوجوب الصلاة [ ص: 151 ] عليه وعلى أمته ، كان علم الرسول بوجوبها مسبوقا بثلاث مقدمات :

                إحداهن : أن جبريل عليه السلام ، رسول الله إليه بذلك .

                والثانية : أن رسول الله معصوم من الكذب على الله تعالى وغيره .

                الثالثة : أن الله سبحانه وتعالى ، معصوم فيما يحكم به من الخطأ ، فإذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بوجوب الصلاة عليهم ، كان علمهم بوجوبها مسبوقا بمقدمات :

                منها : أن هذا النبي رسول الله تعالى ، فيما يخبر به عنه بواسطة الوحي ، ومستند صحة هذه المقدمة ، ظهور المعجز الخارق على يده ، لأنه قائم مقام تصديق الله تعالى له ، كما تقرر في النبوات .

                ومنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يكذب على الله تعالى .

                ومنها : أن ما أوجبه الله تعالى ، فهو حق ، ثم تتعدد طبقات الأمة وكثرة الوسائط بتعدد مقدمات العلم الاستدلالي .

                فنقول فيما أردنا إيجابه بقول الصحابي : هذا الصحابي عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجاز الاقتداء به ، بقوله : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، ومن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجاز الاقتداء به وجب العمل بقوله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، معصوم من الكذب ، والله سبحانه وتعالى معصوم من الخطأ ، حتى إن الحديث الذي يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة عشرة ، أو عشرين من الرواة ، هو متوقف على مثل ذلك من [ ص: 152 ] المقدمات ، لأن النظر في حال كل واحد من الرواة مقدمة ، هذا هو التحقيق .

                وإن تجوزنا ، فقلنا : النظر في حال مجموع رجال الحديث الواحد ، مقدمة .

                قوله : " فعلى هذا " ، أي : على هذا القول ، وهو أن علم الله ورسوليه استدلالي ، لا يصح أن يقال : إن قوله : بالاستدلال احتراز عنه ، فلا بد أن يكون قوله : بالاستدلال محترزا به عن شيء ، لئلا يبقى ذكره لاغيا غير مفيد ، فيكون محترزا به عن المقلد ، لأنه يعلم بعض الأحكام الشرعية ، ومع ذلك لا يسمى علمه بها فقها ، لأن علمه بها بالنقل المجرد عن المجتهد ، لا عن نظر واستدلال ، والشرط في الفقه أن يكون بالاستدلال .

                قوله : " وفيه نظر " ، أي : في كون قوله : بالاستدلال احتراز عن المقلد نظر لأن علم المقلد يخرج من حد الفقه ، ويحصل الاحتراز عنه بقولنا : العلم بالأحكام عن أدلتها التفصيلية ، ومعرفة المقلد لبعض الأحكام ، ليست عن دليل أصلا ، لا إجمالي ولا تفصيلي ، وشرط الفقه أن يكون عن دليل تفصيلي ، وعلم المقلد ليس عن دليل تفصيلي ، فلا يكون فقها ، ولا المقلد فقيها ، فيكون خارجا عن حد الفقه ، بقيد التفصيل ، لا بقيد الاستدلال ، وحينئذ يبقى لفظ الاستدلال لاغيا لا يفيد شيئا .

                تنبيهان :

                أحدهما : قول القائل : في هذا الكلام ، أو في هذا الرأي نظر ، أي : يحتاج إلى أن يعاد النظر فيه ، أو يحتاج أن ينظر فيه لإظهار ما يلوح فيه من فساد ، ولا يقال [ ص: 153 ] ذلك في كلام مقطوع بفساده ولا صحته ، بل فيما كان فساده محتملا ، فإن قيل ذلك في كلام يقطع بفساده ، كان كناية ومحاباة للخصم ، وإن قيل في كلام يقطع بصحته ، كان عنادا من القائل .

                الثاني : قوله : " لأن معرفته بعض " هو منصوب بمعرفته ، لأنها مصدر ، أو اسم مصدر يعمل عمل فعله ، تقديره لأن معرفة المقلد ، أي : إن عرف بعض الأحكام . قوله : " ويمكن أن يقال " هذا رد للنظر المذكور في أن ذكر الاستدلال احتراز عن علم المقلد ببعض الأحكام .

                وتقريره أن يقال : يجوز أن يكون علم المقلد ببعض الأحكام الشرعية عن دليل تفصيلي حفظه كما حفظ الأحكام ، إذ لا يمتنع أن يسمع المقلد مجتهدا يقول : المرتدة تقتل ، لأن العلة في قتل المرتد تبديل الدين ، لقوله عليه السلام : من بدل دينه فاقتلوه . وذلك المعنى متحقق في المرتدة ، ولفظ الحديث عام يتناولها . أو يسمع حنفيا يقول : المرتدة لا تقتل ، لنهيه عليه السلام عن قتل النساء ، وهو عام ، ولأن المرتد إنما قتل بالردة ، لأنه جنى على الإسلام بتنقيص عدد أهله ، وصيرورته عونا لعدوهم عليهم ، وهو من أهل القتال ، فارتداده مؤثر في الإسلام وأهله ، وهذا [ ص: 154 ] المعنى منتف في المرتدة ، لأن ارتدادها لا يؤثر ، وأشباه هذه الأحكام الموجهة بدلائلها التفصيلية ، فيكون المقلد حينئذ عالما ببعض الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية ، فلو اقتصر في حد الفقه على ذلك ، لدخل فيه المقلد ، وليس هو فقيها ، ولا يسمى علمه فقها ، فاحتيج إلى إخراجه بقيد الاستدلال ، لأن علمه وإن كان عن دليل تفصيلي ، لكنه ليس بالاستدلال ، لأن الاستدلال يستدعي أهليته ، أي : يقتضي أن يكون المستدل من أهل الاستدلال ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، في باب الاجتهاد .

                وأهلية الاستدلال منتفية في المقلد ، إذ لو لم تكن منتفية فيه ، لما كان مقلدا ، لأن المستدل مجتهد ، والمجتهد ضد المقلد ، فلو كان علمه بالاستدلال مع فرضنا له مقلدا ، لزم الجمع بين الضدين .

                وقال بعض الأصوليين : يحترز بقيد الاستدلال أيضا ، عن مثل وجوب الصلاة والصوم ، ونحو ذلك من ضروريات الدين ، لأن العلم بها لا يسمى فقها في الاصطلاح ، لاستغنائه عن الاستدلال ، وحصول العلم الضروري به ، لمن ليس من أهل النظر ، كالعوام والنساء والحمقى ونحوهم .




                الخدمات العلمية