الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 167 ]

                وأكثر المتقدمين قالوا : الفقه معرفة الأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين . وقيل : الناس ، ليدخل ما تعلق بفعل الصبي ونحوه . ولا يرد ما تعلق بفعل البهيمة ، لأن تعلقه بفعلها بالنظر إلى مالكها ، لا إليها نفسها .

                التالي السابق


                قوله : " وأكثر المتقدمين قالوا : الفقه ، معرفة الأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين " وهذه عبارة الغزالي ، غير أنه قال : العلم بالإحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين .

                ولفظ الشيخ أبي محمد في " الروضة " : العلم بأحكام الأفعال الشرعية ، كالحل والحرمة ، والصحة والفساد ، ولم يقصدوا بذلك تحقيق المتأخرين ، بل أرادوا الإشارة إلى حقيقة الفقه .

                قوله : " وقيل : الناس " أي : وقيل : معرفة الأحكام الشرعية الثابتة لأفعال الناس " ليدخل ما تعلق بفعل الصبي ونحوه " ، كالمجنون ممن ليس بمكلف ، كضمان إتلافاتهما وغراماتهما ، إذ هما من الناس فيتناولهما هذا التعريف ، وليسا من المكلفين فيخرجان من الذي قبله .

                لكن هذا يرد عليه ما يبطله ، وهو أنه إذا حاولنا إدخال ما يتعلق بأفعالهما في حد الفقه ، لزم أن يكون لأفعالهما أحكام شرعية فيكونان مكلفين .

                وقد يجاب عنه : بأن تعلق الضمان بأفعالهما ، إنما هو بالنظر إلى وليهما ، كما يتعلق بفعل الدابة بالنظر إلى مالكها ، وليست مكلفة ، أو أنه من باب ربط الحكم [ ص: 168 ] بالسبب ، كما سنقرره إن شاء الله تعالى .

                قوله : " ولا يرد ما تعلق بفعل البهيمة " أي : لا يرد على قولنا : " الثابتة لأفعال المكلفين أو الناس " ما تعلق بفعل البهيمة ، كضمان ما أتلفته من زرع وغيره ، نقضا ، من جهة أنه قد تعلق الحكم الشرعي بفعلها ، وليست مكلفة ، ولا من الناس " لأن تعلقه بفعلها بالنظر إلى مالكها لا إليها نفسها " فكأنها كالآلة له يتعلق الحكم به بواسطة فعلها ، ويرجع إلى ربط الحكم بالسبب .

                وقال في " المحصول " : الفقه عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية العملية المستدل على أعيانها بحيث لا نعلم كونها من الدين ضرورة ، والسؤال على لفظ العلم قد سبق وجوابه . والعملية : احتراز عن العلم بكون الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة ، فإنها أحكام شرعية ، وليست من الفقه ، لأنها ليست عملية ، أي : ليس العلم بها علما بكيفية عمل . والمستدل على أعيانها : احتراز من علم المقلد لأنه عن غير استدلال ، كما سبق .

                خاتمة لهذا الفصل : كنت قد وعدت بذكر العلم ، لوقوعه في حد الفقه ، وبمقتضى ذلك ينبغي أن يذكر الظن والمعرفة أيضا ، لوقوعهما في الحدود ، فلنذكر ذلك مع غيره مما يليق ذكره هاهنا .

                فنقول : أما العلم فالكلام في حده وأقسامه ومداركه ، أما حده ، فقد كثر لهج المتقدمين فيه بقولهم : معرفة المعلوم على ما هو به ، وذكره القاضي في " العدة " وقال : لو اقتصرنا على معرفة المعلوم لكفى ، لأن معرفته لا تكون إلا على ما هو به ، وإلا لم تكن معرفة له ، وإنما قلنا : معرفة المعلوم ، ولم نقل : الشيء ، لأن المعلوم [ ص: 169 ] أعم ، لتناوله الموجود والمعدوم ، وهو معلوم أيضا ، أي : يتعلق به العلم ، والشيء خاص بالموجود ، فليس المعدوم شيئا على رأينا .

                وأبطل هذا التعريف بأمرين :

                أحدهما : أن المعرفة مرادفة للعلم ، يقال : علمت الشيء وعرفته ، بمعنى واحد ولهذا قيل في قوله تعالى : لا تعلمونهم الله يعلمهم [ الأنفال : 60 ] ، أي : لا تعرفونهم ، وتعريف الشيء بمرادفه لا يصح ، إذ هو تعريف له بنفسه .

                الأمر الثاني : أنه تعريف دوري ، لأن لفظ المعلوم مشتق من العلم ، فلا بد من معرفته ، وحينئذ يحتاج في معرفة العلم إلى معرفة العلم ، وهو دور .

                وقال بعضهم : العلم ما أوجب لمن قام به كونه عالما .

                وهو دوري أيضا ، لأن العالم من قام به العلم ، فيصير التقدير : العلم : ما أوجب لمن قام به أن يقوم به العلم .

                وحكي عن المعتزلة أنهم قالوا : العلم : هو اعتقاد الشيء على ما هو به ، وزاد بعضهم : مع سكون النفس إلى معتقده .

                وهو باطل ، بأن علم الله - سبحانه وتعالى - لا يسمى اعتقادا ، وباعتقاد العامة ، فإنهم يعتقدون الشيء ويسكنون إليه ، وقد يكون باطلا في نفس الأمر وجهلا ، وبأن الشيء يخص الموجود عندنا والمعدوم ولم يتناوله الحد ، فيكون غير جامع .

                وقال ابن عقيل في " الواضح " : العلم وجدان النفس الناطقة للأمور بحقائقها .

                وفيه من الخلل ، أن لفظ " وجدان " مشترك أو متردد ، غير أن قرينة التعريف دلت على أن المراد به الإدراك ، فيقرب الأمر .

                وفيه أن علم البارئ - سبحانه وتعالى - يخرج منه ، لأنه ليس نفسا ناطقة ، فلو قال : وجدان النفس للأمور بحقائقها ، لأمكن دخول علم الله - سبحانه وتعالى - فيه ، [ ص: 170 ] على ظاهر قوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [ المائدة : 116 ] اللهم إلا أن يكون ابن عقيل عرف بما ذكرناه العلم المحدث ، وقد بعد عهدي بكلامه .

                وقد اختار جماعة من المتأخرين في حد العلم عبارات .

                فمنهم ابن الصيقل من أصحابنا قال : العلم هو القضاء بأن الأمر كذا ، مع القضاء بأنه لا يمكن أن يكون إلا كذا قضاء لا يمكن زواله ، والأمر في نفسه كذلك ، وهذه عبارة كثير من المنطقيين .

                فقوله : القضاء بأن الأمر كذا ، جنس الحد ، وقوله : مع القضاء بأنه لا يمكن أن يكون إلا كذا ، فصل يخرج به الظن ، لأنه قضاء بأن الحكم كذا ، لكن مع إمكان ألا يكون ، وقوله : لا يمكن زواله ، يفصله عن اعتقاد المقلد المصمم على اعتقاده ، فإنه يمكن زواله بالتشكيك أو بتغير الاجتهاد ، وقوله : والأمر في نفسه كذلك ، يفصله عن الجهل ، لأنه قضاء ، لكنه غير مطابق .

                ومنهم سيف الدين الآمدي ، قال : العلم ، عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التمييز بين حقائق الأمور الكلية تمييزا لا يتطرق إليه احتمال مقابله .

                ومنهم ابن الحاجب ، اختصر ذلك ، فقال : العلم صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض .

                فقوله : صفة ، جنس للحد ، يتناول جميع الصفات ، كالحياة والقدرة والإرادة ، وقوله : توجب تمييزا ، أخرج جميع ذلك إلا الصفة المذكورة ، لكن بقي الحد متناولا للظن والشك والوهم ، لأن جميعها صفات توجب تمييزا ، فبقوله : لا يحتمل النقيض ، خرج ذلك ، وبقي الحد مستقلا بصفة العلم . [ ص: 171 ]

                والذي فهم من كلام فخر الدين في أثناء تقسيم ذكره : أن العلم هو الحكم الجازم المطابق لموجب .

                فالحكم ، هو إسناد الذهن أمرا إلى آخر بإيجاب أو سلب ، كقولنا : العالم محدث أو ليس بقديم ، والجازم : القاطع الذي لا تردد فيه ، وبه يخرج الظن والشك والوهم ، والمطابق : الموافق لما في نفس الأمر ، وهو معنى قول غيره : والأمر في نفسه كذلك ، وبه يخرج الجهل المركب ، وهو الحكم الجازم غير المطابق ، كقول القائل : زيد في الدار ، وليس فيها ، وقوله : لموجب ، أي : لمدرك ، استند الحكم إليه من عقل أو حس أو ما تركب منهما ، وهو احتراز عن اعتقاد المقلد المطابق ، فإنه حكم جازم مطابق وليس بعلم ، لأنه ليس لموجب .

                هذا ما اتفق ذكره في هذا الباب ، وفيه للناس غير ذلك كثير .

                وأما أقسام العلم ، فإنه ينقسم بحسب الزمان إلى قديم ، وهو ما لا أول له ، وهو علم الله - سبحانه وتعالى - ، وهو علم واحد ليس بعرض ولا ضروري ، يتعلق بجميع المعلومات إجمالا وتفصيلا ، وإلى محدث ، وهو ماله أول ، وهو علم من سوى الله تعالى .

                وهو ينقسم إلى تصور ، وهو إدراك الحقائق مجردة عن الأحكام ، وقيل : حصول صورة الشيء في العقل .

                وإلى تصديق ، وهو نسبة حكمية بين الحقائق بالإيجاب أو السلب ، وقيل : إسناد أمر إلى آخر إيجابا أو سلبا ، كقولنا : العلم حسن ، أو ليس بقبيح ، والبيع صحيح ، أو ليس بصحيح .

                وكل واحد من التصور والتصديق ، إما بدهي غني عن الكسب ، كتصورنا معنى [ ص: 172 ] النار ، وأنها حارة ، ومعنى الواحد ، وأنه نصف الاثنين ، وإما كسبي ، كتصورنا معنى الملك ، وأنه من نور ، ومعنى الجني ، وأنه من نار .

                وأما مدارك العلم ، وهي الطرق التي يدرك بها ، فهي على تعددها ، إما حس أو عقل أو مركب منهما .

                والحس : إما باطن ، وهو الوجدان ، كما يجده الحي في نفسه من الألم واللذة والجوع والعطش والقبض والبسط وغير ذلك من عوارض النفس ، وإما ظاهر ، وهو الحواس الخمس : السمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، واللمس .

                والعقل : غريزة طبعية يدرك بها المعاني الكلية ، وقيل : علوم ضرورية ، وهي العلم بوجوب الواجبات ، واستحالة المستحيلات ، وجواز الجائزات ، وقيل : جوهر بسيط يدرك ذلك ، وقد أطلت القول فيه لفظا ومعنى في كتاب " إبطال التحسين والتقبيح " وهل محله الرأس أو القلب ؟ فيه قولان للناس ، وروايتان عن أحمد والشافعي ، والمختار أنه في الرأس ، وهل يختلف بالقلة والكثرة ، والكمال والنقص ؟ فيه قولان للعلماء .

                قال أصحابنا : نعم ، لأن كمال الشيء ونقصه يعرف بكمال آثاره وأفعاله ونقصها ، ونحن نشاهد قطعا تفاوت آثار العقول في الآراء والحكم والحيل ونحوها ، وذلك يدل على تفاوت العقول نفسها ، وأجمع العقلاء على صحة قول القائل : فلان أقل عقلا من فلان ، أو أكمل عقلا ، وذلك يدل على ما ذكرناه .

                وحكوا عن المعتزلة والأشعرية خلاف ذلك ، لأن العقل حجة عامة يرجع إليها الناس عند اختلافهم ، ولو تفاوتت العقول ، لما كان كذلك ، وكان يلزم من ذلك السفسطة ، إذ كان يتسع لبعض الناس إذا ألزم أن الواحد نصف الاثنين ، أو استحالة [ ص: 173 ] اجتماع الضدين ، أن يقول : أنتم تدركون ذلك وأنا لا أدركه ، ولما رأينا الحجة تقوم مطلقا على عموم الناس ، عند الانتهاء إلى هذه القضايا ، علمنا استواء الناس في العقول .

                واعلم أن الحجة قوية من الطرفين ، وهذا يقتضي أن النزاع ليس مورده واحدا ، ووجه الجمع بين القولين ، أن العقل على ضربين : طبعي ، وهو الذي لا يتفاوت في العقلاء ، وكسبي تجريبي ، وهو الذي يتفاوتون فيه .

                وقد جاء عن علي - رضي الله عنه - ، أن العقل الطبيعي يتناهى إلى سبع وعشرين سنة ، والتجريبي لا يتناهى إلا بالموت .

                ثم العقل ، تارة يصدق بالحكم من غير واسطة ، بل بمجرد تصور طرفي قضيته ، كقولنا : الواحد نصف الاثنين ، وهي البديهيات والضروريات ، وتارة يحتاج في التصديق إلى واسطة النظر ، كقولنا : العالم محدث ، فيتوقف حتى يأتي بالواسطة ، فنقول : العالم مؤلف ، وكل مؤلف محدث ، وهي النظريات ، وينتهي إلى الضروريات . ألا ترى أنه لم يصدق بأن العالم محدث ، وصدق بأنه مؤلف ، لأنه ضروري له مشاهد ، وصدق بأن المؤلف محدث لأنه معلوم أيضا ، إذ [ ص: 174 ] المحدث ما له أول ، والمؤلف من ضرورته التأليف ، وقبل تأليفه لم يكن مؤلفا ، وذلك يوجب أن المؤلف له أول ، فيكون محدثا .

                والمركب من الحس والعقل ، كالمتواترات المركبة من حس السمع والعلم بالعقل أن عدد التواتر يمتنع عليه الكذب عادة ، وكالتجريبيات المركبة من التجربة ، والعلم بالعقل أن الاتفاق لا يكون مطردا ولا أكثريا ، وبقية الكلام على القضايا وأنواعها موضعه كتب المنطق .

                وأما الظن ، فهو رجحان أحد الاحتمالين في النفس من غير قطع ، وإن شئت فقل : هو الحكم الراجح غير الجازم ، وسندرجه في تقسيم حاصر له ولغيره إن شاء الله - سبحانه وتعالى - ، وذلك كقول القائل : تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون ، وتقدم بينة الخارج على بينة الداخل ، أو بالعكس ، ونحو ذلك من الأحكام الفقهية ، بل وبعض الأصولية ، كقولنا : الأمر للوجوب والفور ونحوه ، فإن قائل ذلك لا يقطع به ، بل يترجح عنده .

                وأما المعرفة ، فقيل : هي العلم ، لما سبق في أول تعريف العلم ، وقيل : بينهما فرق ، وهو أن المعرفة تستدعي سابقة جهل ، بخلاف العلم ، ولهذا لا يستعمل لفظها بالنسبة إلى البارئ جل جلاله ، فلا يقال : عرف الله كذا ، فهو عارف ، بخلاف علم فهو عالم ، وقيل في الفرق بينهما : غير ذلك .

                تنبيه : حكم العقل بأمر على أمر ، إما جازم أو غير جازم ، والجازم إما غير مطابق ، وهو الجهل المركب ، أو مطابق ، وهو إما لغير موجب ، وهو التقليد ، كاعتقاد العوام ، [ ص: 175 ] أو لموجب ، وهو إما عقل وحده أو حس أو مركب منهما ، فالعقلي إن استغنى عن الكسب ، فهو البديهي ، وإلا فهو النظري .

                والحسي وحده : هو المحسوسات الخمس ، والوجدانيات منها كما سبق ، أو ملحقة بها لاشتباههما ، إذ يقال في كل واحد منهما : أحسست بكذا ، وأنا أحس بكذا .

                والمركب من الحس والعقل : هو القضايا المتواترات والتجريبيات والحدسيات .

                وأما الحكم غير الجازم ، فإن استوى طرفاه ، أي : تردد بين الاحتمالين على السواء فهو شك ، وإلا ، فالراجح ظن ، والمرجوح وهم .

                وقد وقع في هذا التقسيم ذكر الجهل المركب ، وقد سبق أنه الحكم الجازم غير المطابق ، والجهل البسيط هو عدم معرفة الحكم .

                فإذا قيل للفقيه أو غيره مثلا : هل تجوز الصلاة بالتيمم عند عدم الماء ؟ فقال : لا أعلم ، كان ذلك جهلا بسيطا . ولو قال : لا يجوز ، كان جهلا مركبا ، لأنه تركب من عدم الفتيا بالحكم الصحيح ، ومن الفتيا بالحكم الباطل ، والله أعلم .




                الخدمات العلمية