الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 328 ] المسألة الخامسة

              العمل إذا وقع على وفق المقاصد الشرعية ; فإما على المقاصد الأصلية ، أو المقاصد التابعة ، وكل قسم من هذين فيه نظر وتفريع ، فلنضع في كل قسم مسألة ، فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها في العمل ; فلا إشكال في صحته وسلامته مطلقا ، فيما كان بريئا من الحظ وفيما روعي فيه الحظ ، لأنه مطابق لقصد الشارع في أصل التشريع ; إذ تقدم أن المقصود الشرعي في التشريع إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله ، وهذا كاف هنا .

              وينبني عليه قواعد وفقه كثير :

              من ذلك أن المقاصد الأصلية إذا روعيت أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة ، وأبعد عن مشاركة الحظوظ التي تغير في وجه محض العبودية .

              وبيان ذلك أن حظ الإنسان ليس بواجب أن يراعيه من حيث هو حظه ، على قولنا : إن إثبات الشرع له وإباحة الالتفات إليه إنما هو مجرد تفضل امتن الله به ; إذ ليس بواجب على الله مراعاة مصالح العبيد ، وهو أيضا جار على القول بالوجوب العقلي ; فمجرد قصد الامتثال للأمر والنهي أو الإذن كاف في [ ص: 329 ] حصول كل غرض ، في التوجه إلى مجرد خطاب الشارع ، فالعامل على وفقه ملبيا له ; برئ من الحظ ، وفعله واقع على الضروريات وما حولها ثم يندرج حظه في الجملة ، بل هو المقدم شرعا على الغير .

              فإذا اكتسب الإنسان امتثالا للأمر ، أو اعتبارا بعلة الأمر ، وهو القصد إلى إحياء النفوس على الجملة وإماطة الشرور عنها ، كان هو المقدم شرعا : " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " ، أو كان قيامه بما قام به قياما بواجب مثلا ، ثم نظره في ذلك الواجب قد يقتصر على بعض النفوس دون بعض ، كمن يقصد القيام بحياة نفسه من حيث هو مكلف بها ، أو بحياة من تحت نظره ، وقد يتسع نظره فيكتسب ليحيي به من شاء الله ، وهذا أعم الوجوه وأحمدها وأعودها بالأجر ; لأن الأول قد يفوته فيه أمور كثيرة ، وتقع نفقته حيث لم يقصد ، ويقصد غير ما كسب وإن كان لا يضره فإنه لم يكل التدبير إلى ربه ، وأما الثاني ; فقد جعل قصده وتصرفه في يد من هو على كل شيء قدير ، وقصد أن ينتفع بيسيره عالم كبير لا يقدر على حصره ، وهذا غاية في التحقق بإخلاص العبودية ، ولا يفوته من [ ص: 330 ] حظه شيء .

              بخلاف مراعاة المقاصد التابعة ; فقد يفوته معها جل هذا أو جميعه ; لأنه إنما يراعي مثلا زوال الجوع أو العطش أو البرد أو قضاء الشهوة أو التلذذ بالمباح مجردا عن غير ذلك ، وهذا وإن كان جائزا ; فليس بعبادة ولا روعي فيه قصد الشارع الأصلي ، وهو منجر معه ، ولو روعي قصد الشارع لكان العمل امتثالا ; فيرجع إلى التعلق بمقتضى الخطاب كما تقدم ، فإذا لم يراع ; لم يبق إلا مراعاة الحظ خاصة ، هذا وجه .

              ووجه ثان أن المقاصد الأصلية راجعة إما إلى مجرد الأمر والنهي من غير نظر في شيء سوى ذلك ، وهو بلا شك طاعة للأمر وامتثال لما أمر لا داخلة فيه ، وإما إلى ما فهم من الأمر من أنه عبد استعمله سيده في سخرة عبيده ; فجعله وسيلة وسببا إلى وصول حاجاتهم إليهم كيف يشاء .

              [ ص: 331 ] وهذا أيضا لا يخرج عن اعتبار مجرد الأمر ; فهو عامل بمحض العبودية ، مسقط لحظه فيها ; فكأن السيد هو القائم له بحظه ، بخلاف العامل لحظه ; فإنه لما لم يقم بذلك من حيث مجرد الأمر ، ولا من حيث فهم مقصود الأمر ، ولكنه قام به من جهة استجلاب حظه أو حظ من له فيه حظ ; فهو إن امتثل الأمر فمن جهة نفسه ، فالإخلاص على كماله مفقود في حقه ، والتعبد بذلك العمل منتف ، وإن لم يمتثل الأمر ; فذلك أوضح في عدم القصد إلى التعبد ، فضلا عن أن يكون مخلصا فيه ، وقد يتخذ الأمر والنهي عاديين لا عباديين ، إذا غلب عليه طلب حظه ، وذلك نقص .

              ووجه ثالث وهو أن القائم على المقاصد الأول قائم بعبء ثقيل جدا ، وحمل كبير من التكليف لا يثبت تحته طالب الحظ في الغالب ، بل يطلب حظه بما هو أخف ، وسبب ذلك أن هذا الأمر حالة داخلة على المكلف شاء أو أبى ، يهدي الله إليها من اختصه بالتقريب من عباده ، ولذلك كانت النبوة أثقل الأحمال وأعظم التكاليف ، وقد قال تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [ المزمل : 5 ] .

              فمثل هذا لا يكون إلا مع اختصاص زائد ، بخلاف طالب الحظ ; فإنه [ ص: 332 ] عامل بنفسه ، وغير مستويين فاعل بربه وفاعل بنفسه ، فالأول محمول ، والثاني عامل بنفسه ، فلذلك قلما تجد صاحب حظ يقوم بتكليف شاق ، فإن رأيت من يدعي تلك الحال ; فاطلبه بمطالب أهل ذلك المقام ، فإن أوفى به ; فهو ذاك ، وإلا ; علمت أنه متقول قلما يثبت عند ما ادعى ، وإذا ثبت أن صاحب المقاصد الأول محمول ; فذلك أثر من آثار الإخلاص ، وصاحب الحظ ليس بمحمول ذلك الحمل إلا بمقدار ما نقص عنده حظه ، فإذا سقط حظه ثبت قصده في المقاصد الأول ، وثبت له الإخلاص ، وصارت أعماله عبادات .

              فإن قيل : فنحن نرى كثيرا ممن يسعى في حظه وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين ، بل قد جاء عن سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحب الطيب ، والنساء ، والحلواء والعسل ، وكان تعجبه الذراع ، ويستعذب له الماء ، وأشباه ذلك مما هو اتباع لحظ النفس ; إذا كان لا يمتنع مما يشتهيه من الحلال ، بل كان يستعمله إذا وجده ، وقد بلغ الرتبة العليا في أهل الدين ، وهو أتقى الخلق وأزكاهم ، وكان خلقه القرآن ، فهذا في هذا الطرف .

              ونرى أيضا كثيرا ممن يسقط حظ نفسه ويعمل لغيره أو في مصالح العباد بمقتضى ما قدر عليه صادقا في عمله ، ومع ذلك فليس له في الآخرة من [ ص: 333 ] خلاق ، ككثير من رهبان النصارى وغيرهم ممن تزهد وانقطع عن الدنيا وأهلها ، ولم يلتفت إليها ولا أخطرها بباله ، واتخذ العبادة والسعي في حوائج الخلق دأبا وعادة ; حتى صار في الناس آية ، وكل ما يعمله مبني على باطل محض ، وبين هذين الطرفين وسائط لا تحصى تقرب من الفريقين .

              فالجواب من وجهين :

              أحدهما :

              أن ما زعمت ظواهر ، وغائبات الأمور قد لا تكون معلومة ; فانظر ما قاله الإسكاف في " فوائد الأخبار " في قوله عليه الصلاة والسلام : حبب إلي من دنياكم ثلاث يلح لك من ذلك المطلع خلاف ما توهمت من طلب الحظ الصرف إلى طلب الحق الصرف ، ويدل عليه أنه جعل من الثلاث الصلاة ، وهي أعلى العبادات بعد الإيمان ، وهكذا يمكن أن يقال في سواها .

              وأيضا ; فإنه لا يلزم من حب الشيء أن يكون مطلوبا بحظ لأن الحب أمر باطن لا يملك ، وإنما ينظر فيما ينشأ عنه من الأعمال ; فمن أين لك أنه كان عليه الصلاة والسلام يتناول تلك الأشياء لمجرد الحظ ، دون أن يتناوله من حيث الإذن ؟ وهذا هو عين البراءة من الحظ ، وإذا تبين هذا في القدوة الأعظم - صلى الله عليه وسلم - تبين نحوه في كل مقتدى به ممن اشتهرت ولايته .

              وأما الكلام عن الرهبان ، فلا نسلم أنها مجردة من الحظ ، بل هي عين الحظ ، واستهلاك في هوى النفس ; لأن الإنسان قد يترك حظه في أمر إلى حظ هو أعلى منه ، كما ترى الناس يبذلون المال في طلب الجاه ; لأن حظ النفس في الجاه أعلى ، ويبذلون النفوس في طلب الرياسة حتى يموتوا في طريق ذلك ، وهكذا الرهبان قد يتركون لذات الدنيا للذة الرياسة والتعظيم ; فإنها أعلى ، وحظ الذكر والتعظيم والرياسة والاحترام والجاه القائم في الناس من أعظم الحظوظ [ ص: 334 ] التي يستحقر متاع الدنيا في جنبها ، وذلك أول منهي في مسألتنا ; فلا كلام فيمن هذا شأنه ، ولذلك قالوا : " حب الرياسة آخر ما يخرج من رءوس الصديقين " ، وصدقوا .

              والثاني : أن طلب الحظوظ قد يكون مبرءا من الحظوظ ، وقد لا يكون كذلك ، والفرق بينهما أن الباعث على طلبه أولا إما أن يكون أمر الشارع أو لا ، فإن كان أمر الشارع ، فهو الحظ المبرأ المنزه ; لأن نفسه عنده تنزلت منزلة غيره ، فكما يكون في مصالح غيره مبرء عن الحظ ، كذلك يكون في مصالح نفسه ، وذلك بمقتضى القصد الأول ، وهذا شأن من ذكر في السؤال ، ولا يعد مثل هذا حظا ولا سعيا فيه بحسب القصد ; لأن القصد التابع إذا كان الباعث عليه القصد الأصلي كان فرعا من فروعه ; فله حكمه ، فأما إن لم يرتبط بالقصد الأول ; فإنه سعي في الحظ ، وليس ما نحن فيه هكذا .

              وأما شأن الرهبان ومن أشبههم ; فقد يتفق لهم هذه الحالة وإن كانت فاسدة الوضع ; فينقطعون في الصوامع والديارات ، ويتركون الشهوات واللذات ، ويسقطون حظوظهم في التوجه إلى معبودهم‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ ، ويعملون في ذلك غاية ما يمكنهم من وجوه التقرب إليه ، وما يظنون أنه سبب إليه ، ويعاملونه في الخلق وفي أنفسهم حسبما يفعله المحق في الدين حرفا بحرف ، ولا أقول : " إنهم غير مخلصين ، بل هم مخلصون إلى من عبدوا ، ومتوجهون صدقا إلى ما عاملوا ، إلا أن كل ما يعملون مردود عليهم ، لا ينفعهم الله بشيء منه في الآخرة ; لأنهم بنوا على غير أصل : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية [ الغاشية : 2 - 4 ] ، والعياذ بالله " .

              [ ص: 335 ] ودونهم في ذلك أهل البدع والضلال من أهل هذه الملة ، وقد جاء في الخوارج ما علمت من قوله عليه الصلاة والسلام في ذي الخويصرة : دعه ; فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم الحديث ; فأخبر أن لهم عبادة تستعظم وحالا يستحسن ظاهره ، لكنه مبني على غير أصل ، فلذلك قال فيهم : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، وأمر عليه الصلاة والسلام بقتلهم ، ويوجد في أهل الأهواء من هذا كثير .

              [ ص: 336 ] [ ص: 337 ] وعلى الجملة ; فالإخلاص في الأعمال إنما يصح خلوصه مع اطراح الحظوظ ; لكنه إن كان مبنيا على أصل صحيح كان منجيا عند الله ، وإن كان على أصل فاسد فبالضد ، ويتفق هذا كثيرا في أهل المحبة ; فمن طالع أحوال المحبين رأى اطراح الحظوظ وإخلاص الأعمال لمن أحبوا على أتم الوجوه التي تتهيأ من الإنسان .

              فإذا ; قد ظهر أن البناء على المقاصد الأصلية أقرب إلى الإخلاص ، وأن المقاصد التابعة أقرب إلى عدمه ، ولا أنفيه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية