الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 344 ] المسالة السادسة

              العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة ; فلا يخلو أن تصاحبه المقاصد الأصلية ، أو لا .

              فأما الأول ; فعمل بالامتثال بلا إشكال ، وإن كان سعيا في حظ النفس .

              وأما الثاني ; فعمل بالحظ والهوى مجردا .

              والمصاحبة إما بالفعل ، ومثاله أن يقول مثلا : هذا المأكول ، أو هذا الملبوس ، أو هذا الملموس ، أباح لي الشرع الاستمتاع به ; فأنا أستمتع بالمباح وأعمل باستجلابه لأنه مأذون فيه ، وإما بالقوة ، ومثاله أن يدخل في التسبب إلى ذلك المباح من الوجه المأذون فيه ، لكن نفس الإذن لم يخطر بباله ، وإنما خطر له أن هذا يتوصل إليه من الطريق الفلاني ، فإذا توصل إليه منه فهذا في الحكم كالأول ، إذا كان الطريق التي توصل إلى المباح من جهته مباحا ; إلا أن المصاحبة بالفعل أعلى ، ويجري غير المباح مجراه في الصورتين .

              فإذا تقرر هذا ; فبيان كونه عاملا بالحظ والامتثال أمران :

              [ ص: 345 ] أحدهما : أنه لو لم يكن كذلك ; لم يجز لأحد أن يتصرف في أمر عادي حتى يكون القصد في تصرفه مجرد امتثال الأمر ، من غير سعي في حظ نفسه ولا قصد في ذلك ، بل كان يمتنع للمضطر أن يأكل الميتة حتى يستحضر هذه النية ويعمل على هذا القصد المجرد من الحظ ، وهذا غير صحيح باتفاق ، ولم يأمر الله تعالى ولا رسوله بشيء من ذلك ، ولا نهى عن قصد الحظوظ في الأعمال العادية على حال مع قصد الشارع للإخلاص في الأعمال وعدم التشريك فيها ، وأن لا يلحظ فيها غير الله تعالى ; فدل على أن القصد للحظ في الأعمال إذا كانت عادية لا ينافي أصل الأعمال .

              فإن قيل : كيف يتأتى قصد الشارع للإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها ؟

              قيل : معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع ، لا يقصد بها عمل جاهلي ، ولا اختراع شيطاني ، ولا تشبه بغير أهل الملة ; كشرب الماء أو العسل في صورة شرب الخمر ، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود أو النصارى وإن صنعه المسلم ، أو ما ذبح على مضاهاة الجاهلية ، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك .

              كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن [ ص: 346 ] إسماعيل المخزومي أجرى عينا ، فقال له المهندسون عند ظهور الماء : لو أهرقت عليها دما كان أحرى أن لا تغيض ولا تهور فتقتل من يعمل فيها ، فنحر جزائر حين أرسل الماء فجرى مختلطا بالدم ، وأمر فصنع له ولأصحابه منها طعام ، فأكل وأكلوا ، وقسم سائرها بين العمال فيها ، فقال ابن شهاب : بئس والله ما صنع ، ما حل له نحرها ولا الأكل منها ، أما بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يذبح للجن ؟ ; لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاه لما ذبح [ ص: 347 ] على النصب وسائر ما أهل لغير الله به .

              وكذلك جاء النهي عن معاقرة الأعراب ، وهي أن يتبارى الرجلان [ ص: 348 ] فيعقر كل واحد منهما ، يجاود به صاحبه ; فأكثرهما عقرا أجودهما ، نهى عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به . قال الخطابي : وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان ، وأوان حوادث يتجدد لهم ، وفي نحو ذلك من الأمور .

              وخرج أبو داود : " نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتباريين أن يؤكل " ، وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه ; فهذا وما كان نحوه إنما [ ص: 349 ] شرع على جهة أن يذبح على المشروع بقصد مجرد الأكل ، فإذا زيد فيه هذا القصد ; كان تشريكا في المشروع ، ولحظا لغير أمر الله تعالى ، وعلى هذا وقعت الفتيا من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز ، وقوله فيها : إنها مما [ ص: 350 ] أهل لغير الله به وهو باب واسع .

              والثاني : أنه لو كان قصد الحظ مما ينافي الأعمال العادية ; لكان العمل بالطاعات وسائر العبادات رجاء في دخول الجنة أو خوفا من دخول النار عملا بغير الحق ، وذلك باطل قطعا ; فيبطل ما يلزم عنه .

              أما بيان الملازمة ; فلأن طلب الجنة أو الهرب من النار سعي في حظ ، لا فرق بينه وبين طلب الاستمتاع بما أباحه له الشارع وأذن له فيه من حيث هو حظ ; إلا أن أحدهما عاجل والآخر آجل ، والتعجيل والتأجيل في المسألة طردي كالتعجيل والتأجيل في الدنيا لا منافسة فيه ، ولما كان طلب الحظ الآجل سائغا كان طلب العاجل أولى بكونه سائغا .

              وأما بطلان التالي ; فإن القرآن قد جاء بأن من عمل جوزي ، واعملوا يدخلكم الجنة ، واتركوا تدخلوا الجنة ، ولا تعملوا كذا فتدخلوا النار ، ومن يعمل كذا يجز بكذا ، وهذا بلا شك تحريك على العمل بحظوظ النفوس ، فلو كان طلب الحظ قادحا في العمل لكان القرآن مذكرا بما يقدح في العمل ، وذلك باطل باتفاق ، فكذلك ما يلزم عنه .

              وأيضا ; فإن النبي كان يسأل عن العمل الذي يدخل الجنة ويبعد من النار ; فيخبر به من غير احتراز ولا تحذير من طلب الحظ في ذلك ، وقد أخبر الله تعالى عمن قال : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [ الإنسان : 9 ] .

              [ ص: 351 ] بقولهم : إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [ الإنسان : 10 ] .

              وفي الحديث : مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما إلى آخر الحديث ، وهو نص في العمل على الحظ .

              وفي حديث بيعة الأنصار قولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - : اشترط لربك واشترط لنفسك . فلما اشترط ; قالوا : فما لنا ؟ قال : الجنة الحديث .

              [ ص: 352 ] وبالجملة ; فهذا أكثر من أن يحصى ، وجميعه تحريض على العمل بالحظ ، وإن لم يقل : اعمل لكذا ; فقد قال : اعمل يكن لك كذا ، فإذا لم [ ص: 353 ] يكن مثله قادحا في العبادات ; فأولى أن لا يكون قادحا في العادات .

              فإن قيل : بل مثل هذا قادح في العمل بالنص والمعقول .

              أما المعقول ; فإن العامل بقصد الحظ قد جعل حظه مقصدا والعمل وسيلة ، لأنه لو لم يكن مقصدا لم يكن مطلوبا بالعمل ، وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف ، وكذلك العمل ولو لم يكن وسيلة لم يطلب الحظ من طريقه ، وقد فرضناه أنه يعمله ليصل به إلى غيره ، وهو حظه ; فهو بالنسبة إلى ذلك الحظ وسيلة ، وقد تقرر أن الوسائل من حيث هي وسائل غير مقصودة لأنفسها ، وإنما هي تبع للمقاصد بحيث لو سقطت المقاصد سقطت الوسائل ، وبحيث لو توصل إلى المقاصد دونها لم يتوسل بها ، وبحيث لو فرضنا عدم المقاصد جملة لم يكن للوسائل اعتبار ، بل كانت تكون كالعبث ، وإذا ثبت هذا ، فالأعمال المشروعة إذا عملت للتوصل بها إلى حظوظ النفوس ، فقد صارت غير متعبد بها إلا من حيث الحظ ، فالحظ هو المقصود بالعمل لا التعبد ، فأشبهت العمل بالرياء لأجل حظوظ الدنيا من الرياسة والجاه والمال وما أشبه ذلك ، والأعمال المأذون فيها كلها يصح التعبد بها إذا أخذت من حيث أذن فيها ، فإذا أخذت من جهة [ ص: 354 ] الحظوظ سقط كونها متعبدا بها ; فكذلك العمل بالأعمال المأمور بها والمتعبد بها كالصلاة والصيام وأشباههما ، ينبغي أن يسقط التعبد بها ، وكل عمل من عادة أو عبادة مأمور به ; فحظ النفس متعلق به ، فإذا أخذ من ذلك الوجه لا من جهة كونه متعبدا به سقط كونه عبادة ; فصار مهمل الاعتبار في العبادة ، فبطل التعبد فيه ، وذلك معنى كون العمل غير صحيح .

              وأيضا ; فهذا المأمور أو المنهي بما فيه حظه ، يا ليت شعري ما الذي كان يصنع لو ثبت أنه عري عن الحظوظ ؟ ! هل كان يلزمه التعبد لله بالأمر والنهي أم لا ؟ فإذا كان من المعلوم أنه يلزمه ; فالمأمور به والمنهي عنه بلا بد مقصود في نفسه لا وسيلة ، وعلى هذا نبه القائل بقوله :


              هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم     أليس من الواجب المستحق
              ثناء العباد على المنعم

              ويعني بالوجوب بالشرع ، فإذا جعل وسيلة ; أخرج عن مقتضى المشروع ، وصار العمل بالأمر والنهي على غير ما قصد الشارع ، والقصد المخالف لقصد الشارع باطل ، والعمل المبني ، عليه مثله ; فالعمل المبني على الحظ كذلك .

              وإلى هذا فقد ثبت أن العبد ليس له في نفسه مع ربه حق ، ولا حجة له عليه ، ولا يجب عليه أن يطعمه ولا أن يسقيه ولا أن ينعمه ، بل لو عذب أهل السماوات والأرض لكان له ذلك بحق الملك ، قل فلله الحجة البالغة [ الأنعام : 149 ] ; فإذا لم يكن له إلا مجرد التعبد ; فحقه أن يقوم به من غير طلب حظ ، فإن طلب الحظ بالعمل لم يكن قائما بحقوق السيد بل بحظوظ نفسه .

              [ ص: 355 ] وأما النصوص الدالة على صحة هذا النظر ; فالآيات والأحاديث الدالة على إخلاص الأعمال لله ، وعلى أن ما لم يخلص لله منها ; فلا يقبله الله ، كقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ البينة : 5 ] .

              وقوله : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ الكهف : 110 ] .

              وفي الحديث : أنا أغنى الشركاء عن الشرك .

              وفيه : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ; أي : ليس له من التعبد لله بالأمر بالهجرة شيء ، فإن كل أمر ونهي عقل معناه أو لم يعقل معناه ; ففيه تعبد حسبما يأتي إن شاء الله ; فالعامل لحظه مسقط لجانب التعبد ، ولذلك عد جماعة من السلف المتقدمين العامل للأجر خديم السوء وعبد السوء ، وفي الآثار من ذلك أشياء ، وقد جمع الأمر كله قوله تعالى : ألا لله الدين الخالص [ الزمر : 3 ] .

              وأيضا ; فقد عد الناس من هذا ما هو قادح في الإخلاص ومدخل للشوب في الأعمال ; فقال الغزالي : كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ، ويميل إليه القلب قل أو كثر إذا تطرق إلى العمل ، تكدر به صفوه ، وقل به [ ص: 356 ] إخلاصه .

              قال : " والإنسان منهمك في حظوظه ومنغمس في شهواته ، قلما ينفك فعل من أفعاله ، وعبادة من عباداته عن حظوظ ما وأغراض عاجلة [ من هذه الأجناس ] ، ولذلك [ قيل ] : من سلم له في عمره خطرة واحدة خالصة لوجه الله نجا ، وذلك لعز الإخلاص ، وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب ، بل الخالص هو الذي لا باعث فيه إلا طلب القرب من الله تعالى " .

              ثم قال : " وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها ، حتى يتجرد فيه قصد التقرب ; فلا يكون فيه باعث سواه " .

              قال : " وهذا لا يتصور إلا من محب لله مستهتر ، مستغرق الهم بالآخرة ، بحيث لم يبق ل [ حب ] الدنيا في قلبه قرار ، حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا ، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة ; فلا يشتهي الطعام لأنه طعام ، بل لأنه يقويه على العبادة ، ويتمنى [ أن ] لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل ; فلا يبقى في قلبه حظ في الفضول الزائدة على الضرورة ، ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده لأنه ضرورة دينية ; فلا يكون له هم إلا الله تعالى ، فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته ; كان خالص العمل صحيح النية في جميع حركاته وسكناته ، فلو نام مثلا ليريح نفسه ليتقوى على العبادة بعده ; كان نومه عبادة وحاز درجة المخلصين ، ومن ليس كذلك ; فباب الإخلاص في الأعمال كالمسدود عليه إلا على سبيل الندور " . ثم تكلم على باقي المسألة ، وله في الإحياء من هذا المعنى مواضع يعرفها من زواله ، فإذا كان كذلك ; فالعامل الملتفت إلى حظ نفسه على [ ص: 357 ] خلاف ما وقع الكلام عليه .

              فالجواب أن ما تعبد العباد به على ضربين :

              أحدهما : العبادات المتقرب بها إلى الله بالأصالة ، وذلك الإيمان وتوابعه من قواعد الإسلام وسائر العبادات .

              والثاني : العادات الجارية بين العباد التي في التزامها نشر المصالح بإطلاق ، وفي مخالفتها نشر المفاسد بإطلاق ، وهذا هو المشروع لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم ، وهو القسم الدنيوي المعقول المعنى ، والأول هو حق الله من العباد في الدنيا ، والمشروع لمصالحهم في الآخرة ودرء المفاسد عنهم .

              فأما الأول ; فلا يخلو أن يكون الحظ المطلوب دنيويا أو أخرويا .

              فإن كان أخرويا ; فهذا حظ قد أثبته الشرع حسبما تقدم ، وإذا ثبت شرعا ; فطلبه من حيث أثبته صحيح ، إذ لم يتعد ما حده الشارع ، ولا أشرك مع الله في ذلك العمل غيره ، ولا قصد مخالفته ; إذ قد فهم من الشارع حين رتب على الأعمال جزاء أنه قاصد لوقوع الجزاء على الأعمال ; فصار العامل ليقع له الجزاء عاملا لله وحده على مقتضى العلم الشرعي ، وذلك غير قادح في [ ص: 358 ] إخلاصه ; لأنه علم أن العبادة المنجية والعمل الموصل ما قصد به وجه الله لا ما قصد به غيره ; لأنه عز وجل يقول : إلا عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق معلوم إلى قوله في جنات النعيم [ الصافات : 40 - 43 ] الآية .

              فإذا كان قد رتب الجزاء على العمل المخلص - ومعنى كونه مخلصا أن لا يشرك معه في العبادة غيره - ; فهذا قد عمل على وفق ذلك ، وطلب الحظ ليس بشرك ، إذ لا يعبد الحظ نفسه ، وإنما يعبد من بيده بذل الحظ المطلوب ، وهو الله تعالى ، لكن لو أشرك مع الله من ظن بيده بذل حظ ما من العباد ; فهذا هو الذي أشرك ، حيث جعل مع الله غيره في ذلك الطلب بذلك العمل ، والله لا يقبل عملا فيه شرك ، ولا يرضى بالشرك ، وليست مسألتنا من هذا .

              فقد ظهر أن قصد الحظ الأخروي في العبادة لا ينافي الإخلاص فيها ، بل إذا كان العبد عالما بأنه لا يوصله إلى حظه من الآخرة إلا الله تعالى ; فذلك باعث له على الإخلاص ، قوي لعلمه أن غيره لا يملك ذلك .

              وأيضا ; فإن العبد لا ينقطع طلبه للحظ لا في الدنيا ولا في الآخرة ، على ما نص عليه أبو حامد رحمه الله ; لأن أقصى حظوظ المحبين التنعم في الآخرة بالنظر إلى محبوبهم والتقرب منه ، والتلذذ بمناجاته ، وذلك حظ عظيم ، بل هو أعظم ما في الدارين ، وهو راجع إلى حظ العبد من ذلك ، فإن الله تعالى غني عن العالمين ، قال تعالى : ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين [ العنكبوت : 6 ] .

              [ ص: 359 ] وإلى هذا فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر نادر قليل إن وجد ، والله عز وجل قد أمر الجميع بالإخلاص ، والإخلاص البريء عن الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جدا لا يصل إليه إلا خواص الخواص ، وذلك قليل ، فيكون هذا المطلوب قريبا من تكليف ما لا يطاق ، وهذا شديد .

              وعلى أن بعض الأئمة قال : " إن الإنسان لا يتحرك إلا بحظ ، والبراءة من الحظوظ صفة إلهية ، ومن ادعاه فهو كافر ، قال أبو حامد : وما قاله حق ، ولكن القوم إنما أرادوا به - يعني الصوفية - البراءة عما يسميه الناس حظوظا ، وذلك الشهوات الموصوفة في الجنة فقط ، فأما التلذذ بمجرد المعرفة والمناجاة ، والنظر إلى وجه الله العظيم ; فهذا حظ هؤلاء ، وهذا لا يعده الناس حظا ، بل يتعجبون منه " .

              قال : " وهؤلاء لو عوضوا عما هم فيه من لذة الطاعة والمناجاة ، وملازمة الشهود للحضرة الإلهية سرا وجهرا نعيم الجنة ، لاستحقروها ولم يلتفتوا إليها ; فحركتهم لحظ ، وطاعتهم لحظ ، ولكن حظهم معبودهم دون غيره " . هذا ما قال ، وهو إثبات لأعظم الحظوظ ، ولكن هؤلاء على ضربين :

              [ ص: 360 ] أحدهما : من يسبق له امتثال أمر الله الحظ ، فإذا أمر أو نهي لبى قبل حضور الحظ ، فهم عاملون بالامتثال لا بالحظ ، وأصحاب هذا الضرب على درجات ، ولكن الحظ لا يرتفع خطوره على قلوبهم إلا نادرا ، ولا مقال في صحة إخلاص هؤلاء .

              والثاني : من يسبق له الحظ الامتثال ، بمعنى أنه لما سمع الأمر أو النهي خطر له الجزاء ، وسبق له الخوف أو الرجاء ، فلبى داعي الله ، فهو دون الأول ، ولكن هؤلاء مخلصون أيضا ; إذ طلبوا ما أذن لهم في طلبه ، وهربوا عما أذن لهم في الهرب عنه ، من حيث لا يقدح في الإخلاص عما تقدم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية