الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              فإن قيل : هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب عليه ; لأن كلا القسمين قد تضمن ضد ما اقتضاه في وضعه الأول ، فالواجب العمل على ما [ ص: 526 ] يقتضيه الحال في الاستعمال للمباح ، أو ترك الاستعمال ، وما زاد على ذلك لا فائدة فيه فيما يظهر إلا تعليق الفكر بأمر صناعي وليس هذا من شأن أهل الحزم من العلماء .

              فالجواب أنه ينبني عليه أمور فقهية ، وأصول عملية .

              منها الفرق بين ما يطلب الخروج عنه من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للفاسد ، وما لا يطلب الخروج عنه ، وإن اعترضت العوارض ، وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر كالبيع والشراء والمخالطة والمساكنة إذا كثر الفساد في الأرض واشتهرت المناكر بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجاته وتصرفه في أحواله لا يسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته ، فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجاته ، كانت مطلوبة بالجزء ، أو بالكل ، وهى إما مطلوب بالأصل ، وإما خادم للمطلوب بالأصل ; لأنه إن فرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج ، أو تكليف ما لا يطاق ، وذلك مرفوع عن هذه الأمة ، فلا بد للإنسان من ذلك ، لكن مع الكف عما [ ص: 527 ] يستطاع الكف عنه ، وما سواه فمعفو عنه ; لأنه بحكم التبعية لا بحكم الأصل .

              وقد بسطه الغزالي في كتاب الحلال والحرام من الإحياء على وجه أخص من هذا . فإذا أخذ قضية عامة استمر واطرد .

              وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمام بعد ما ذكر جوازه : فإن قيل : فالحمام دار يغلب فيها المنكر فدخولها إلى أن يكون حراما أقرب منه إلى أن يكون مكروها ، فكيف أن يكون جائزا ؟ قلنا : الحمام موضع تداو وتطهر ، فصار بمنزلة النهر ، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات ، [ ص: 528 ] وتظاهر المنكرات . فإذا احتاج إليه المرء دخله ، ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه ، والمنكر اليوم في المساجد والبلدان ، فالحمام كالبلد عموما ، وكالنهر خصوصا . هذا ما قاله ، وهو ظاهر في هذا المعنى .

              وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها ، وهذا إذا أدى الاحتراز من العارض للحرج . وأما إذا لم يؤد إليه ، وكان في الأمر المفروض مع ورود النهي سعة كسد الذرائع ففي المسألة نظر ، ويتجاذبها طرفان فمن اعتبر العارض سد في بيوع الآجال وأشباهها من الحيل ، ومن اعتبر الأصل لم يسد ما لم يبد الممنوع صراحا .

              ويدخل أيضا في المسألة النظر في تعارض الأصل والغالب ، فإن لاعتبار الأصل رسوخا حقيقيا واعتبار غيره تكميلي من باب التعاون ، وهو [ ص: 529 ] ظاهر .

              أما إذا كان المباح مطلوب الترك بالكل فعلى خلاف ذلك ; إذ لا يجوز لأحد أن يستمع إلى الغناء ، وإن قلنا : إنه مباح إذا حضره منكر ، أو كان في طريقه ; لأنه غير مطلوب الفعل في نفسه ولا هو خادم لمطلوب الفعل ، فلا يمكن والحالة هذه أن يستوفي المكلف حظه منه ، فلا بد من تركه جملة ، وكذلك اللعب وغيره .

              وفي كتاب الأحكام بيان لهذا المعنى في فصل الرخص ، وإليه يرجع وجه الجمع بين التحذير من فتنة الدنيا مع عدم التحذير من اجتنابها ، أو اكتسابها .

              فإن قيل : فقد حذر السلف من التلبس بما يجر إلى المفاسد ، وإن كان أصله مطلوبا بالكل ، أو كان خادما للمطلوب ، فقد تركوا الجماعات واتباع الجنائز ، وأشباهها مما هو مطلوب شرعا ، وحض كثير من الناس على ترك التزوج ، وكسب العيال لما داخل هذه الأشياء واتبعها من المنكرات والمحرمات .

              وقد ذكر عن مالك أنه ترك الجمعات والجماعات وتعليم العلم واتباع الجنائز ، وما أشبه ذلك مما هو مطلوب لا يحصل إلا مع مخالطة الناس ، [ ص: 530 ] وهكذا غيره ، وكانوا علماء وفقهاء ، وأولياء ، ومثابرين على تحصيل الخيرات وطلب المثوبات ، وهذا كله له دليل في الشريعة كقوله - عليه الصلاة والسلام - : يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ، وسائر ما جاء في طلب العزلة ، وهى متضمنة لترك كثير مما هو مطلوب بالكل ، أو بالجزء ندبا ، أو وجوبا خادما لمطلوب ، أو مقصودا لنفسه فكيف بالمباح ؟

              فالجواب أن هذا المعنى لا يرد من وجهين :

              أحدهما : أنا إنما تكلمنا في جواز المخالطة في طلب الحاجات الضرورية وغيرها ، فمن عمل على أحد الجائزين فلا حرج عليه ولا يرد علينا ما هو مطلوب بالجزء ; لأنا لم نتعرض في هذه المسألة للنظر فيه .

              والثاني : أن ما وقع التحذير فيه ، وما فعل السلف من ذلك إنما هو بناء على [ ص: 531 ] معارض أقوى في اجتهادهم مما تركوه كالفرار من الفتن فإنها في الغالب قادحة في أصول الضروريات كفتن سفك الدماء بين المسلمين في الباطل ، أو ما أشبه ذلك أو للإشكال الواقع عند التعارض بين المصلحة الحاصلة بالتلبس مع المفسدة المنجرة بسببه ، أو ترك ورع المتورع يحمل على نفسه مشقة يحتملها والمشقات تختلف كما مر في كتاب الأحكام فكل هذا لا يقدح في مقصودنا على حال .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية