الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              ويتبين لك صحة ما تقرر في النظر في الأمثلة المعترض بها في السؤال الأول .

              فأما قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية [ الأنعام : 82 ] فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص ، فإن السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد ، وهادمة لقواعد الشرك وما يليه ، والذي تقدم قبل الآية قصةإبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس ، وكان قد تقدم قبل ذلك قوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته [ الأنعام : 21 ] فبين أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخلتين وظهر أنهما المعني بهما في سورة الأنعام إبطالا بالحجة ، وتقريرا لمنزلتهما في المخالفة ، [ ص: 28 ] وإيضاحا للحق الذي هو مضاد لهما ; فكأن السؤال إنما ورد قبل تقرير هذا المعنى .

              وأيضا ; فإن ذلك لما كان تقريرا لحكم شرعي بلفظ عام ; كان مظنة لأن يفهم منه العموم في كل ظلم ، دق أو جل ; فلأجل هذا سألوا وكان ذلك عند نزول السورة ، وهي مكية نزلت في أول الإسلام قبل تقرير جميع كليات الأحكام .

              وسبب احتمال النظر ابتداء أن قوله : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ الأنعام : 82 ] نفي على نكرة لا قرينة فيها تدل على استغراق أنواع الظلم ، بل هو كقوله : لم يأتني رجل ; فيحتمل المعاني التي ذكرها سيبويه ، وهي كلها نفي لموجب مذكور أو مقدر ، ولا نص في مثل هذا على الاستغراق في جميع الأنواع المحتملة ; إلا مع الإتيان بمن وما يعطي معناها ، وذلك مفقود هنا ، بل في السورة ما يدل على أن ذلك النفي وارد على ظلم معروف ، وهو ظلم [ ص: 29 ] الافتراء على الله والتكذيب بآياته ; فصارت الآية من جهة إفرادها بالنظر في هذا المساق مع كونها أيضا في مساق تقرير الأحكام مجملة في عمومها فوقع الإشكال فيها ، ثم بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن عمومها إنما القصد به نوع أو نوعان من أنواع الظلم ، وذلك ما دلت عليه السورة ، وليس فيه تخصيص على هذا بوجه [ ص: 30 ] وأما قوله : إنكم وما تعبدون الآية [ الأنبياء : 98 ] فقد أجاب الناس عن اعتراض ابن الزبعرى فيها بجهله بموقعها ، وما روي في الموضع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " ما أجهلك بلغة قومك يا غلام " لأنه جاء في الآية إنكم وما تعبدون [ ص: 31 ] [ الأنبياء : 98 ] في الأصنام التي كانوا يعبدون " وما " لما لا يعقل ; فكيف تشمل الملائكة والمسيح ؟ ! .

              والذي يجري على أصل مسألتنا أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح ، وإنما كانوا يعبدون الأصنام ; فقوله : وما تعبدون [ الأنبياء : 98 ] عام في الأصنام التي كانوا يعبدون ، فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك ; فكان اعتراض المعترض جهلا منه بالمساق ، وغفلة عما قصد في الآيات .

              وما روي من قوله : " ما أجهلك بلغة قومك يا غلام " دليل على عدم تمكنه في فهم المقاصد العربية وإن كان من العرب ; لحداثته وغلبة الهوى عليه في الاعتراض أن يتأمل مساق الكلام حتى يهتدي للمعنى المراد ، ونزل قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى [ الأنبياء : 101 ] بيانا [ ص: 32 ] لجهله ومثله ما في الصحيح أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس ، فقل له : لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ; لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : مالكم ولهذه الآية ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء ، فكتموه إياه وأخبروه بغيره ; فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم . ثم قرأ ابن عباس وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب [ آل عمران : 187 ] كذلك حتى قوله : يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا [ آل عمران : 188 ] ; فهذا من ذلك المعنى أيضا [ ص: 33 ] وبالجملة فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة ، وإن ثم قصدا آخر سوى القصد العربي لابد من تحصيله ، وبه يحصل فهمها ، وعلى طريقه يجري سائر العمومات ، وإذ ذاك لا يكون ثم تخصيص بمنفصل ألبتة ، واطردت العمومات قواعد صادقة العموم ، ولنورد هنا فصلا هو مظنة لورود الإشكال على ما تقرر ، وبالجواب عنه يتضح المطلوب اتضاحا أكمل .

              [ ص: 34 ] فلقائل أن يقول : إن السلف الصالح مع معرفتهم بمقاصد الشريعة وكونهم عربا قد أخذوا بعموم اللفظ وإن كان سياق الاستعمال يدل على خلاف ذلك وهو دليل على أن المعتبر عندهم في اللفظ عمومه بحسب اللفظ الإفرادي وإن عارضه السياق ، وإذا كان كذلك عندهم صار ما يبين لهم خصوصه كالأمثلة المتقدمة مما خص بالمنفصل ، لا مما وضع في الاستعمال على العموم المدعى .

              ولهذا الموضع من كلامهم أمثلة ، منها أن عمر بن الخطاب كان يتخذ الخشن من الطعام ، كما كان يلبس المرقع في خلافته ; فقيل له : لو اتخذت طعاما ألين من هذا ؟ . فقال : أخشى أن تعجل طيباتي ، يقول الله تعالى : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ الأحقاف : 20 ] الحديث .

              وجاء أنه قال لأصحابه وقد رأى بعضهم قد توسع في الإنفاق شيئا : أين تذهب بكم هذه الآية : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية [ ص: 35 ] [ الأحقاف : 20 ] وسياق الآية يقتضي أنها إنما نزلت في الكفار الذين رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة ، ولذلك قال : ويوم يعرض الذين كفروا على النار ثم قال : فاليوم تجزون عذاب الهون [ الأحقاف : 20 ] فالآية غير لائقة بحالة المؤمنين ، ومع ذلك ; فقد أخذها عمر مستندا في ترك الإسراف مطلقا ، وله أصل في الصحيح في حديث المرأتين المتظاهرتين على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يوسع على أمتك ; فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدونه . فاستوى جالسا ; فقال : " أوفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ ! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " فهذا يشير إلى مأخذ عمر في الآية وإن دل السياق على خلافه وفي حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة أن [ ص: 36 ] معاوية قال : صدق الله ورسوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها [ هود : 15 ] إلى آخر الآيتين فجعل مقتضى الحديث وهو في أهل الإسلام داخلا تحت عموم الآية ، وهي في الكفار ; لقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار [ هود : 16 ] إلخ ; فدل على الأخذ بعموم من في غير الكفار أيضا . وفي البخاري عن محمد بن عبد الرحمن ; قال : قطع على أهل المدينة بعث ; فاكتتبت ، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس ، فأخبرته ; فنهاني عن ذلك أشد النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين ، يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل ; فأنزل الله عز وجل : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية [ النساء : 97 ] فهذا أيضا من ذلك ; لأن الآية عامة فيمن كثر سواد المشركين ، ثم إن عكرمة أخذها على وجه أعم من ذلك وفي الترمذي والنسائي عن ابن عباس لما نزلت : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم [ ص: 37 ] الآية [ الأنبياء : 284 ] دخل قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " قولوا سمعنا وأطعنا " فألقى الله الإيمان في قلوبهم ; فأنزل الله تعالى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون الآية ، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا [ البقرة : 286 ] قال : قد فعلت الحديث إلخ ، فهموا من الآية العموم ، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ونزل بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] على وجه النسخ أو غيره مع قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وهي [ ص: 38 ] قاعدة مكية كلية ; ففي هذا ما يدل على صحة الأخذ بالعموم اللفظي وإن دل الاستعمال اللغوي أو الشرعي على خلافه .

              وكذلك قوله تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى [ النساء : 115 ] الآية ; فإنها نزلت فيمن ارتد عن الإسلام بدليل قوله بعد : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ] ثم إن عامة العلماء استدلوا بها على كون الإجماع حجة ، وأن مخالفه عاص ، وعلى أن الابتداع في الدين مذموم .

              وقوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه [ هود : 5 ] ظاهر مساق الآية أنها في الكفار والمنافقين أو غيرهم بدليل قوله : ليستخفوا منه [ هود : 5 ] أي : من الله تعالى أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس : إنها في أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ; فنزل ذلك فيهم فقد عم هؤلاء في حكم الآية مع [ ص: 39 ] أن المساق لا يقتضيه ومثل هذا كثير ، وهو كله مبني على القول باعتبار عموم اللفظ لا خصوص السبب ومثله قوله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة : 44 ] مع أنها نزلت في اليهود والسياق يدل على ذلك ، ثم إن العلماء عموا بها غير الكفار ، وقالوا : كفر دون كفر [ ص: 40 ] فإذا رجع هذا البحث إلى القول بأن لا اعتبار بعموم اللفظ ، وإنما الاعتبار بخصوص السبب ، وفيه من الخلاف ما علم ; فقد رجعنا إلى أن أحد القولين هو الأصح ، ولا فائدة زائدة .

              والجواب : إن السلف الصالح إنما جاءوا بذلك الفقه الحسن بناء على أمر آخر غير راجع إلى الصيغ العمومية ; لأنهم فهموا من كلام الله تعالى مقصودا يفهمه الراسخون في العلم ، وهو أن الله تعالى ذكر الكفار بسيئ أعمالهم ، والمؤمنين بأحسن أعمالهم ; ليقوم العبد بين هذين المقامين على قدمي الخوف والرجاء ، فيرى أوصاف أهل الإيمان وما أعد لهم ; فيجتهد رجاء أن يدركهم ، ويخاف أن لا يلحقهم فيفر من ذنوبه ، ويرى أوصاف أهل الكفر وما أعد لهم ; فيخاف من الوقوع فيما وقعوا فيه ، وفيما يشبهه ، ويرجو بإيمانه أن لا يلحق بهم ; فهو بين الخوف والرجاء من حيث يشترك مع الفريقين في وصف ما وإن كان مسكوتا عنه ; لأنه إذا ذكر الطرفان كان الحائل بينهما مأخوذ الجانبين كمحال [ ص: 41 ] الاجتهاد لا فرق ، لا من جهة أنهم حملوا ذلك محمل الداخل تحت العموم اللفظي ، وهو ظاهر في آية الأحقاف وهود والنساء في آية : إن الذين توفاهم الملائكة الآية [ النساء : 97 ] ويظهر أيضا في قوله : ويتبع غير سبيل المؤمنين [ النساء : 115 ] وما سوى ذلك ; فإما من تلك القاعدة ، وإما أنها بيان فقه الجزئيات من الكليات العامة ، لا أن المقصود التخصيص ، بل بيان جهة العموم ، وإليك النظر في التفاصيل ، والله المستعان .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية