الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 276 ] المسألة الرابعة

              المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال .

              والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة ، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين .

              وأيضا ، فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الأكرمين ، وقد رد - عليه الصلاة والسلام - التبتل .

              وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة : أفتان أنت يا معاذ ؟ .

              [ ص: 277 ] وقال : إن منكم منفرين .

              وقال : سددوا ، وقاربوا ، واغدوا ، وروحوا ، وشيء من الدلجة ، والقصد القصد تبلغوا .

              وقال : عليكم من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا .

              وقال : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه ، وإن قل .

              ورد عليهم الوصال ، وكثير من هذا .

              وأيضا ، فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل ، ولا تقوم به مصلحة الخلق ، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة ، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا ؛ لأن المستفتي إذ ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين ، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ، وهو مشاهد ، وأما إذا ذهب به مذهب [ ص: 278 ] الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة ، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى ، واتباع الهوى مهلك ، والأدلة كثيرة .

              فصل

              فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضادا للمشي على التوسط ، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضا .

              وربما فهم بعض الناس أن ترك الترخص تشديد ، فلا يجعل بينهما وسطا ، وهذا غلط ، والوسط هو معظم الشريعة ، وأم الكتاب ، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك ، وأكثر من هذا شأنه من أهل الانتماء إلى العلم يتعلق بالخلاف الوارد في المسائل العلمية بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي ، بناء منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه ، وحرج في حقه ، وأن الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى ، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة ، وهذا قلب للمعنى المقصود في الشريعة ، وقد تقدم أن اتباع الهوى ليس من المشقات التي يترخص بسببها ، وأن الخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى ، وأن الشريعة حمل على التوسط لا على مطلق التخفيف ، وإلا لزم ارتفاع مطلق التكليف من حيث هو حرج ، ومخالف للهوى ، ولا على مطلق التشديد ، فليأخذ الموفق في هذا الموضع حذره ، فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية