الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 278 ] المسألة الحادية عشرة

              طلب الكفاية يقول العلماء بالأصول أنه متوجه على الجميع ، لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ، وما قالوه صحيح من جهة كلي الطلب ، وأما من جهة جزئيه ففيه تفصيل ، وينقسم أقساما ، وربما تشعب تشعبا طويلا ، ولكن الضابط للجملة من ذلك أن الطلب وارد على البعض ، ولا على البعض كيف كان ، ولكن على من فيه أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب لا على الجميع عموما .

              والدليل على ذلك أمور :

              أحدها : النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة الآية [ التوبة : 122 ] ; فورد التحضيض على طائفة لا على الجميع .

              وقوله : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف الآية [ آل عمران : 104 ] .

              [ ص: 279 ] وقوله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم [ النساء : 102 ] الآية إلى آخرها .

              وفي القرآن من هذا النحو أشياء كثيرة ، ورد الطلب فيها نصا على البعض لا على الجميع .

              والثاني : ما ثبت من القواعد الشرعية القطعية في هذا المعنى كالإمامة الكبرى أو الصغرى ; فإنهما إنما تتعين على من فيه أوصافها المرعية لا على كل الناس ، وسائر الولايات بتلك المنزلة إنما يطلب بها شرعا باتفاق من كان أهلا للقيام بها ، والغناء فيها ، وكذلك الجهاد ـ حيث يكون فرض كفاية ـ إنما [ ص: 280 ] يتعين القيام به على من فيه نجدة وشجاعة ، وما أشبه ذلك من الخطط الشرعية ; إذ لا يصح أن يطلب بها من لا يبدئ فيها ولا يعيد ; فإنه من باب تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى المكلف ، ومن باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة أو المفسدة المستدفعة ، وكلاهما باطل شرعا .

              والثالث : ما وقع من فتاوى العلماء ، وما وقع أيضا في الشريعة من هذا المعنى ، فمن ذلك ما روي عن محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد قال لأبي ذر يا أبا ذر : إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم ، وكلا الأمرين من فروض الكفاية ، ومع ذلك ; فقد نهاه عنها ، فلو فرض إهمال الناس لهما ; لم يصح أن يقال بدخول أبي ذر في حرج [ ص: 281 ] الإهمال ، ولا من كان مثله .

              وفي الحديث : لا تسأل الإمارة ، وهذا النهي يقتضي أنها غير عامة الوجوب ، ونهى أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بعض الناس عن الإمارة ، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ ، وليها أبو بكر فجاءه الرجل فقال : نهيتني عن الإمارة ، ثم وليت فقال له : " وأنا الآن أنهاك عنها " ، واعتذر له عن ولايته هو بأنه لم يجد من ذلك بدا .

              وروي أن تميما الداري استأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما ـ في أن يقص ; فمنعه من ذلك ، وهو من مطلوبات الكفاية ـ أعني : هذا النوع من [ ص: 282 ] القصص الذي طلبه تميم ـ رضي الله عنه ـ ، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ .

              وعلى هذا المهيع جرى العلماء في تقرير كثير من فروض الكفايات ; فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم : أفرض هو ؟ فقال : " أما على كل الناس فلا " يعني به الزائد على الفرض العيني ، وقال أيضا : " أما من كان فيه موضع للإمامة ; فالاجتهاد في طلب العلم عليه واجب ، والأخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه " فقسم كما ترى ، فجعل من فيه قبولية للإمامة مما يتعين عليه ، ومن لا جعله مندوبا إليه ، وفي ذلك بيان أنه ليس على كل [ ص: 283 ] الناس ، وقال سحنون : " من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم ; ففرض عليه أن يطلبها ؛ لقوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر [ آل عمران : 104 ] ، ومن لا يعرف المعروف كيف يأمر به ؟ أو لا يعرف المنكر كيف ينهى عنه ؟ " .

              وبالجملة فالأمر في هذا المعنى واضح ، وباقي البحث في المسألة موكول إلى علم الأصول .

              لكن قد يصح أن يقال : إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز ; لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة ، فهم مطلوبون بسدها على الجملة ، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة ، وذلك من كان أهلا لها ، والباقون [ ص: 284 ] وإن لم يقدروا عليها ـ قادرون على إقامة القادرين ، فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها ، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر ، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها ، فالقادر إذا مطلوب بإقامة الفرض ، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر ; إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة ، من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف فلا يبقى للمخالفة وجه ظاهر .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية