الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأثار

الحازمي - أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني

صفحة جزء
[ ص: 43 ] بسم الله الرحمن الرحيم

مدخل المصنف إلى علم ناسخ الحديث ومنسوخه

خلاصة كتابه وأهميته - صعوبة علم ناسخ الحديث ومنسوخه - الزهري يستعظم هذا العلم - الإمام الشافعي كشف أسرار هذا العلم - الإمام أحمد أخذ هذا العلم عن الشافعي - معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه من تتمات الاجتهاد - قول للإمام علي يوضح ذلك - رواية عن حذيفة - ابن عباس وناسخ الحديث ومنسوخه - شدة اعتناء الصحابة بمعرفة الناسخ والمنسوخ - منزلة السنة من القرآن .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، وصلواته على محمد وآله وسلامه ، قال الشيخ الإمام الحافظ زين الدين أبو بكر محمد بن موسى الحازمي :

الحمد لله الكبير المتعال ، الكثير النوال ، المنعم المفضال ، الموصوف بالقدرة والكمال ، والعزة والجلال ، المقدس عن سمات النقص وصنوف الزوال : منشئ السحاب الثقال ، ومخرج الودق من الخلال ، وصلى الله على خيرته من خلقه محمد المبعوث بنسخ آثار الضلال ، ورفع الآصار والأغلال ، صلى الله عليه وعلى آله خير صحاب وأفضل آل .

[ ص: 44 ] أما بعد : فهذا الكتاب أذكر فيه ما انتهت إلي معرفته من ناسخ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنسوخه ، إذ هو علم جليل ذو غور وغموض ، دارت فيه الرءوس ، وتاهت في الكشف عن مكنونه النفوس ، وقد توهم بعض من لم يحظ من معرفة الآثار إلا بآثار ، ولم يحصل من طرائق الأخبار إلا أخبارا ، أن الخطب فيه جليل يسير ، والمحصول منه قليل غير كثير .

ومن أمعن النظر في اختلاف الصحابة في الأحكام المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتضح له ما قلناه .

ويشهد لصحة ما رسمناه ما أخبرنيه أبو موسى محمد بن عمر الحافظ ، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد ، أخبرنا أبو نعيم ، حدثنا أبو حامد بن جبلة ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا عبيد الله بن سعد ، حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ضمرة بن رجاء بن أبي سلمة عن أبي رزين ، قال : سمعت الزهري يقول : أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنسوخه .

ألا ترى الزهري وهو أحد من انتهى إليه علم الصحابة ، وعليه مدار [ ص: 45 ] حديث الحجاز ، وهو القائل : " لم يدون هذا العلم أحد قبلي تدويني " وكان إليه المرجع في الحديث ، وعليه المعول في الفتيا ، كيف استعظم هذا الشأن مخبرا عن فقهاء الأمصار .

ثم لا نعلم أحدا جاء بعده تصدى لهذا الفن ولخصه ، وأمعن فيه وخصصه إلا ما يوجد من بعض الإيماء والإشارة في عرض الكلام عن آحاد الأئمة ، حتى جاء أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي - رضي الله عنه - فإنه خاض تياره وكشف أسراره واستنبط معينه ، واستخرج دفينه ، واستفتح بابه ، ورتب أبوابه .

أخبرنا الإمام أبو عبد الله الحسن بن العباس الفقيه في كتابه ، عن أبي مسعود الحافظ ، أخبرنا أحمد بن عبد الله ، حدثنا محمد بن حميد بن سهل ، حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال : سمعت محمد بن مسلم بن وارة [ ص: 46 ] يقول : قدمت من مصر فأتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلم عليه ، فقال لي : كتبت كتب الشافعي - رضي الله عنه - ؟ قلت : لا . قال : فرطت ، ما عرفنا المجمل من المفسر ، ولا ناسخ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منسوخه حتى جالسنا الشافعي .

[ ص: 47 ] وقد ذكر الشافعي - رضي الله عنه - في كتاب " الرسالة " من هذا الفن أحاديث ، ولم يستنزف معينه فيها ، إذ لم يضع الرسالة لهذا الفن وحده ، غير أنه أشار إلى قطعة صالحة توجد في غضون الأبواب من كتبه ، ولو كانت موجودة لأغنت الباحث عن الطلب ، والطالب عن تجشم الكلف ، غير أنها بموت الرجال تفرقت ، وفي أيدي النوائب تمزقت .

ثم هذا الفن من تتمات الاجتهاد ؛ إذ الركن الأعظم في باب الاجتهاد معرفة النقل ، ومن فوائد النقل معرفة الناسخ والمنسوخ ، إذ الخطب في ظواهر الأخبار يسير ، وتجشم كلفها غير عسير . وإنما الإشكال في كيفية استنباط الأحكام من خفايا النصوص ، ومن التحقيق فيها معرفة أول الأمرين وآخرهما ، إلى غير ذلك من المعاني .

[ ص: 48 ] أخبرنا أبو العلاء الحسن بن أحمد الحافظ ، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد القاري ، أخبرنا أحمد بن حفص الفقيه ، أخبرنا أبو الفرج عثمان بن أحمد بن إسحاق البرجي ، أخبرنا أبو حفص محمد بن عمر بن حفص ، حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن الحسين ، حدثنا الحسين بن حفص ، حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن قال : مر علي على قاص فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا . قال : " هلكت وأهلكت " .

[ ص: 49 ] أخبرني أبو العباس أحمد بن المبارك بن محمد ، أخبرنا أبو العباس أحمد بن الحسين بن علي ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد ، أخبرنا أبو بكر بن محمد بن إسماعيل الوراق ، أخبرنا أبو بكر بن أبي داود ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا حجاج ، حدثنا يزيد بن إبراهيم ، حدثنا إبراهيم بن العلاء الغنوي أبو هارون ، عن سعيد بن أبي الحسن ، أنه لقي أبا يحيى المعرقب ، فقال له : من الذي قال له : اعرفوني اعرفوني ؟ قال : ذاك يا سعيد أني أنا هو . قال : ما عرفت أنك هو . قال : فإني أنا هو ، مر بي علي - رضي الله عنه - وأنا أقص بالكوفة ، فقال لي : من أنت ؟ فقلت : أنا أبو يحيى . قال : لست بأبي يحيى ، ولكنك تقول : اعرفوني اعرفوني . ثم قال : هل علمت الناسخ من المنسوخ ؟ قلت : لا . قال : هلكت وأهلكت . فما عدت بعد أن أقص على أحد ، أنافعك ذاك يا سعيد ؟ .

أخبرني أبو موسى الحافظ ، أخبرنا أبو علي ، أخبرنا أبو القاسم ، حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال : سئل حذيفة عن شيء فقال : إنما يفتي أحد ثلاثة : من عرف الناسخ والمنسوخ ، قالوا : ومن يعرف ذلك ؟ قال : عمر أو رجل ولي سلطانا ، فلا يجد من ذلك بدا ، أو متكلف . [ ص: 50 ] قرأت على أبي القاسم الحذاء ، أخبركه أبو سعد أحمد بن محمد المقري ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سلمة بن نبيط بن شريط الأشجعي ، حدثني الضحاك بن مزاحم ، قال : مر ابن عباس بقاص يقص فركضه برجله ، فقال : أتدري ما الناسخ من المنسوخ ؟ قال : وما الناسخ من المنسوخ ؟ قال : وما تدري ما الناسخ من المنسوخ : قال : لا . قال : هلكت ، وأهلكت .

والآثار في هذا الباب تكثر جدا ، وإنما أوردنا نبذة منها ليعلم شدة اعتناء الصحابة بمعرفة الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى ، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إذ شأنهما واحد .

أخبرني محمد بن عمر بن أحمد المديني الحافظ ، أخبرنا الحسن بن أحمد القاري ، أخبرنا أبو نعيم ، أخبرنا أبو أحمد الغطريفي ، أخبرنا أحمد بن موسى العدوي ، حدثنا إسماعيل بن سعيد الجرجاني ، أخبرنا محمد بن جعفر ، عن جرير بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن أبي عوف ، عن المقدام بن معدي كرب ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه - ثلاثا - ألا يوشك رجل شبعان على أريكته - أي : سريره - يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه .

وقبل الشروع في المقصود لا بد من ذكر مقدمة تكون مدخلا إلى معرفة المطلب ، نذكر فيه حقيقة النسخ ولوازمه وتوابعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية