الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم

[ ص: 2 ] الحمد لله الذي جعل الإنسان هو الجامع الصغير؛ فطوى فيه ما تضمنه العالم الأكبر؛ الذي هو الجامع الكبير؛ وشرف من شاء من نوعه في القديم؛ والحديث؛ بالهداية إلى خدمة علم الحديث؛ وأوقد له من مشكاة السنة - لاقتباس أنوارها - مصباحا وضاحا؛ ومنحه من مقاليد الأثر مفتاحا فتاحا؛ والصلاة والسلام على أعلى العالمين منصبا؛ وأنفسهم نفسا وحسا؛ المبعوث بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه؛ وسراجا منيرا؛ حتى أشرق الوجود برسالته ضياء وابتهاجا؛ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا؛ ثم على من التزم العمل بقضية هديه العظيم المقدار؛ من المهاجرين والأنصار؛ والتابعين لهم إلى يوم القرار؛ الذين تناقلوا الخبر والأخبار؛ ونوروا مناهج الأقطار؛ بأنوار المآثر والآثار؛ صلاة وسلاما دائمين؛ ما ظهرت بوازغ شموس الأخبار؛ ساطعة من آفاق عبارات من أوتي جوامع الكلم والاختصار؛ وبعد؛ فهذا ما اشتدت إليه حاجة المتفهم؛ بل وكل مدرس ومعلم؛ من شرح على الجامع الصغير للحافظ الكبير؛ الإمام الجلال الشهير؛ ينشر جواهره؛ ويبرز ضمائره؛ ويفصح عن لغاته؛ ويكشف القناع عن إشاراته؛ ويميط عن وجوه خرائده اللثام؛ ويسفر عن جمال حور مقصوراته الخيام؛ ويبين بدائع ما فيه من سحر الكلام؛ ويدل على ما حواه من درر مجمعة على أحسن نظام؛ ويخدمه بفوائد تقر بها العين؛ وفرائد يقول البحر الزاخر: من أين أخذها؟! من أين؟! وتحقيقات تنزاح بها شبه الضالين؛ وتدقيقات ترتاح لها نفوس المنصفين؛ وتحرق نيرانها أفئدة الحاسدين؛ لا يعقلها إلا العالمون؛ ولا يجحدها إلا الظالمون؛ ولا يغص منها إلا كل مريض الفؤاد؛ من يهد الله فهو المهتدي؛ ومن يضلل فما له من هاد؛ ومع ذلك؛ فلم آل جهدا في الاختصار؛ والتجافي عن منهج الإكثار؛ فالمؤلفات تتفاضل بالزهر والثمر؛ لا بالهذر؛ وبالملح لا بالكبر؛ وبجموم اللطائف؛ لا بتكثير الصحائف؛ وبفخامة الأسرار؛ لا بضخامة الأسفار؛ وبرقة الحواشي؛ لا بكثرة الغواشي؛ ومؤلف الإنسان على فضله - أو نقصه - عنوان؛ وهو بأصغريه؛ اللفظ اللطيف؛ والمعنى الشريف؛ لا بأكبريه؛ اللفظ الكثير؛ والمعنى الكثيف؛ وهنالك يعرف الفرض من النافلة؛ وتعرض الإبل؛ فرب مائة لا تجد فيها راحلة؛ ثم إني بعون أرحم الراحمين لم أدخل بتأليفه في زمرة الناسخين؛ ولم أسكن بتصنيفه في سوق الغث والسمين؛ بل أتيت بحمد الله بشوارد فرائد؛ باشرت اقتناصها؛ وعجائب غرائب؛ استخرجت من قاموس الفكر وعباب القريحة مغاصها؛ فمن استلحق بعض أبكاره الحسان لم ترده عن المطالبة بالبرهان؛ ولم أعرب من ألفاظه إلا ما كان خفيا؛ فقد قال الصدر القونوي: غالب ممن يتكلم على الأحاديث إنما يتكلم عليها من حيث إعرابها؛ والمفهوم من ظاهرها؛ بما لا يخفى على من له أدنى مسكة في العربية؛ وليس في ذلك كبير فضيلة؛ ولا مزيد فائدة؛ إنما الشأن في معرفة مقصوده - صلى الله عليه وسلم - وبيان ما تضمنه كلامه من الحكم والأسرار؛ بيانا تعضده أصول الشريعة؛ وتشهد بصحته العقول السليمة؛ وما سوى ذلك ليس من الشرح في شيء؛ قال ابن السكيت: خذ من النحو ما تقيم به الكلام فقط؛ ودع الغوامض.

ولم أكثر من نقل الأقاويل والاختلافات؛ لما أن ذلك على الطالب من أعظم الآفات؛ إذ هو كما قال حجة الإسلام: يدهش عقله ويحير ذهنه؛ قال: وليحذر من أستاذ عادته نقل المذاهب وما قيل فيها؛ فإن إضلاله أكثر من إرشاده كيفما كان؛ ولا يصلح الأعمى لقود العميان؛ ومن كان دأبه ليس إلا إعادة ما ذكره الماضون؛ وجمع ما دونه السابقون؛ فهو منحاز عن مراتب التحقيق؛ معرج عن ذلك الطريق؛ بل هو كحاطب ليل؛ وغريق في سيل؛ إنما الحبر من عول على سليقته القويمة؛ وقريحته السليمة؛ مشيرا إلى ما يستند الكلام [ ص: 3 ] إليه من المعقول والمنقول؛ رامزا إلى ذلك رمز المفروغ منه؛ المقرر في العقول؛ قال حجة الإسلام - في الإحياء -: ينبغي أن يكون اعتماد العلماء في العلوم على بصيرتهم؛ وإدراكهم؛ وبصفاء قلوبهم؛ لا على الصحف والكتب؛ ولا على ما سمعوه من غيرهم؛ فإنه إن اكتفى بحفظ ما يقال؛ كان وعاء للعلم؛ لا عالما. أهـ.

فيا أيها الناظر؛ اعمل فيه بشرط الواقف؛ من استيفاء النظر بعين العناية؛ وكمال الدراية؛ لا يحملك احتقار مؤلفه على التعسف؛ ولا الحظ النفساني على أن يكون لك عن الحق تخلف؛ فإن عثرت منه على هفوة؛ أو هفوات؛ أو صدرت فيه عن كبوة؛ أو كبوات؛ فما أنا بالمتحاشي عن الخلل؛ ولا بالمعصوم عن الزلل؛ ولا هو بأول قارورة كسرت؛ ولا شبهة مدفوعة زبرت؛ ومن تفرد في سلوك السبيل لا يأمن من أن يناله أمر وبيل؛ ومن توحد بالذهاب في الشعاب والقفار فلا يبعد أن تلقاه الأهوال والأخطار؛ وكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك؛ ومدفوع إلى منهج مع خطر الخطإ مسلوك؛ ولا يسلم من الخطإ إلا من جعل التوفيق دليله في مفترقات السبل؛ وهم الأنبياء والرسل؛ على أني علقته باستعجال؛ في مدة الحمل والفصال؛ والخواطر كسيرة؛ وعين الفؤاد غير قريرة؛ والقرائح قريحة؛ والجوارح جريحة من جنايات الأيام والأنام؛ تأديبا من الله عن الركون إلى من سواه؛ واللياذ بمن لا تؤمن غلسة هواه؛ فرحم الله امرأ قهر هواه؛ وأطاع الإنصاف وقواه؛ ولم يعتمد العنت؛ ولا قصد قصد من إذا رأى حسنا ستره؛ وعيبا أظهره ونشره؛ وليتأمله بعين الإنصاف؛ لا بعين الحسد والانحراف؛ فمن طلب عيبا وجد؛ وجد؛ ومن افتقد زلل أخيه بعين الرضا والإنصاف فقد فقد؛ والكمال محال لغير ذي الجلال.

ولما من الله (تعالى) بإتمام هذا التقريب؛ وجاء بحمد الله آخذا من كل مطلب بنصيب؛ نافذا في الغرض بسهمه المصيب؛ كامدا قلوب الحاسدين بمفهومه ومنطوقه؛ راغما أنوف المتصلفين لما استوى على سوقه؛ سميته " فيض القدير بشرح الجامع الصغير" ؛ ويحسن أن يترجم بـ " مصابيح التنوير على الجامع الصغير" ؛ ويليق أن يدعى بـ " البدر المنير في شرح الجامع الصغير" ؛ ويناسب أن يترجم بـ " الروض النضير في شرح الجامع الصغير" ؛ هذا؛ وحيث أقول: " القاضي" ؛ فالمراد البيضاوي؛ أو العراقي؛ فجدنا من قبل الأمهات الحافظ الكبير زين الدين العراقي؛ أو جدي؛ فقاضي القضاة يحيى المناوي؛ أو ابن حجر؛ فخاتمة الحفاظ أبو الفضل العسقلاني - رحمهم الله (تعالى) - سبحانه.

وأنا أحقر الورى؛ خويدم الفقهاء؛ محمد؛ المدعو عبد الرؤوف المناوي - حفه الله بلطف سماوي؛ وكفاه شر المعادي والمناوي؛ ونور قبره حين إليه يأوي -؛ وعلى الله الاتكال؛ وإليه المرجع والمآل؛ لا ملجأ إلا إياه؛ ولا قوة إلا بالله؛ وها أنا أفيض في المقصود؛ مستفيضا من ولي الطول والجود:

مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي بعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها; وأقام في كل عصر من يحوط هذه الملة بتشييد أركانها; وتأييد سننها؛ وتبيينها; وأشهد أن لا إله إلا الله; وحده; لا شريك له; شهادة يزيح ظلام الشكوك صبح يقينها; وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله; المبعوث لرفع كلمة الإسلام وتشييدها; وخفض كلمة الكفر وتوهينها - صلى الله عليه وسلم؛ وعلى آله وصحبه; ليوث الغابة; وأسد عرينها -; هذا كتاب أودعت فيه من الكلم النبوية ألوفا; ومن الحكم المصطفوية صنوفا; اقتصرت فيه على الأحاديث الوجيزة; ولخصت فيه من معادن الأثر إبريزه; وبالغت في تحرير التخريج; فتركت القشر; وأخذت اللباب; وصنته عما تفرد به وضاع؛ أو كذاب; ففاق ذلك الكتب المؤلفة في هذا النوع; كالفائق؛ والشهاب; وحوى من نفائس الصناعة الحديثة ما لم يودع قبله في كتاب; ورتبته على حروف المعجم; مراعيا أول الحديث; فما بعده; تسهيلا على الطلاب; وسميته " الجامع الصغير من حديث البشير النذير" ; لأنه مقتضب من الكتاب الكبير؛ الذي سميته " جمع الجوامع" ; وقصدت فيه جمع الأحاديث النبوية بأسرها; وهذه رموزه: (خ) : للبخاري; (م): لمسلم; (ق): لهما; (د): لأبي داود; (ت) : للترمذي; (ن) : للنسائي; (هـ): لابن ماجه; (4): لهؤلاء الأربعة؛ (3) لهم؛ إلا ابن ماجه; (حم): لأحمد في مسنده; (عم): لابنه عبد الله; في زوائده; (ك): للحاكم؛ فإن كان في مستدركه أطلقت; وإلا بينته; (خد): للبخاري; في الأدب; (تخ): له في التاريخ; (حب): لابن حبان في صحيحه; (طب): للطبراني في الكبير; (طس): له في الأوسط; (طص): له في الصغير; (ص): لسعيد بن منصور في سننه; (ش): لابن أبي شيبة; (عب): لعبد الرزاق في الجامع; (ع): لأبي يعلى في مسنده; (قط): للدارقطني; فإن كان في السنن أطلقت; وإلا بينته; (فر): للديلمي في مسند الفردوس; (حل): لأبي نعيم في الحلية; (هب): للبيهقي في شعب الإيمان; (هق): له في السنن; (عد): لابن عدي في " الكامل" ; (عق): للعقيلي في " الضعفاء" ; (خط): للخطيب; فإن كان في التاريخ أطلقت; وإلا بينته; والله أسأل أن يمن بقبوله; وأن يجعلنا عنده من حزبه المفلحين; وحزب رسوله; آمين.

قال المصنف: (بسم الله) ؛ أي: بكل اسم للذات الأقدس؛ لا بغيره؛ ملتبسا للتبرك أؤلف؛ فالباء للملابسة؛ كما هو مختار الزمخشري؛ وهو أحسن؛ وأفصح من جعلها للاستعانة؛ الذي هو مقتضى صنيع القاضي ترجيحه؛ لأن الملابسة أبلغ في التعظيم؛ وأدخل في التأدب؛ بخلاف جعل اسم الله آلة غير مقصودة لذاتها؛ ولأنها أدل منها على ملابسة جميع أجزاء الفعل؛ ولأن التبرك باسمه ظاهر لكل أحد؛ وتأويل الأولية بأن المراد أن الفعل لا يتم شرعا ما لم يصدر باسمه؛ لا يدرك إلا بدقة النظر؛ ولأن ابتداء المشركين كان بأسماء آلهتهم للتبرك بها؛ ولأن كون اسم الله (تعالى) آلة الفعل [ ص: 4 ] ليس إلا؛ باعتبار أنه يتوسل إليه ببركته؛ فعاد للتبرك؛ ذكره الشريف وغيره؛ وتعقب المولى حسن الرومي الأول بأن تلك الجهة غير ملحوظة؛ بل الملحوظ جهة كون الفعل غير معتبر شرعا؛ ما لم يصدر به؛ كما تقرر؛ وهو يعارض التبرك؛ بل أرجح؛ والثاني بمنع الآلية المذكورة؛ فهيهات إثباتها؛ وبفرضه فباء الاستعانة في جميع أجزاء الفعل فيها الدلالة على تلك الملابسة؛ مع زيادة لا تقاومها الآلية؛ والثالث بأن العبرة بالخواص؛ فالعوام كالهوام؛ والدقة من أسباب الترجيح؛ لا الرد؛ والرابع بأن جعله آلة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل؛ ويشتمل على جعل الموجود - لفوات كماله - بمنزلة المعدوم؛ وذا يعد من المحسنات؛ انتهى.

ونوزع بما فيه طول يسعه المقام؛ وحذف متعلق الباء لئلا يقع في الابتداء غير اسم الله (تعالى)؛ وهو لا بد منه في إظهار المبدئية؛ ليشاكل اللفظ المعنى؛ ومن ثم التزم حذفه في كلام الحكيم - تقدس - أما ما لا بد منه لإظهاره؛ كتقديم الباء؛ ولفظ " اسم" ؛ فلا يفوت البداءة؛ بذكر الله (تعالى) كما بينه الشريف؛ إذ المطلوب المبدئية على وجه يدل عليها؛ وعلى الاختصاص؛ والباء وسيلة لذلك؛ والابتداء لا يتعين كونه باسم خاص من أسمائه؛ بل يحصل بأي لفظ دل على اسمه

فاستبان أن الابتداء بلفظ الاسم ابتداء بالاسم حقيقة؛ والباء وسيلة لذكره؛ وأن التبرك يحصل بجميع أسمائه؛ والتعريف الإضافي قد يحمل على معاني التعريف باللام؛ فيراد جنس الأسماء؛ أو جميع أفرادها؛ وقدر متعلق الباء فعلا؛ لأصالته في العمل؛ وقلة الإضمار؛ ومؤخرا؛ ليفيد الحصر والاهتمام.

وقول أبي حيان: تقديم الظرف لا يوجب الاختصاص؛ أطنب المحقق أبو زرعة في رده؛ في حاشية الكشاف؛ ولا يرد: اقرأ باسم ربك ؛ لأن الأهم فعل القراءة؛ لكونها أهم منزل؛ وخاصا؛ لأنه أنسب بالمقام؛ وأوفى بتأدية المرام؛ وأتم فائدة؛ وأعم عائدة؛ وتقدير " أبتدئ" ؛ مخل بالغرض من شمول البركة للكل؛ وقول المولى الخسرولي: هو أولى؛ امتثالا للفظ الخبر؛ منعه الإمام حسن الرومي ؛ بأن مناط الامتثال البدء بالتسمية؛ لا تقدير فعله؛ إذ لم يقل فيه: كل أمر ذي بال لم يقل فيه - أو لم يضمر فيه - "أبتدئ" ؛ أو " أفتتح" ؛ مفوت للمعنى المناسب لفعل الشروع؛ إذ القصد تلبس جميع أجزاء الفعل بالتبرك؛ فلما تعذر تحقيقا؛ ولا حرج في الدين؛ جعل طريقه كون الشروع فيه ملتبسا بها؛ كما في النية؛ حيث اعتبرت في ابتداء العبادات تحقيقا؛ وفي كلها تقديرا؛ وحذف الألف من " بسم الله" ؛ لكثرة الاستعمال؛ وطولت الباء للدلالة عليه؛ وإشارة إلى أنها - وإن كانت في الأصل حرفا منخفضا - لكن لما اتصلت باسم الله ارتفعت؛ وسمت؛ وبجعل مناط الحذف كثرة الاستعمال عرف وجه إثباتها عند اتصالها بلفظ آخر؛ نحو: " لذكر اسم الله حلاوة" ؛ أو مضاف إلى اسم آخر؛ نحو: " باسم ربك" ؛ والباء للجر؛ فكسرت لتشابه حركتها عملها.

ثم إن كون المتعلق به مقدما على " الرحمن الرحيم" ؛ هو ما درج عليه المحققون؛ لكن قال البلقيني: قضية البداءة بالاسم؛ وإفادة الاختصاص؛ التي ادعاها الزمخشري؛ كون المقدر مؤخرا عن البسملة بكمالها؛ لئلا يقع الفصل بين الموصوف والصفة؛ بما لم يتعين تقديره في هذا الموضع؛ و" الاسم" : ما يجمع اشتقاقين؛ من " السمة" ؛ أو " السمو" ؛ وهو بالنظر إلى اللفظ " وسم" ؛ وبالنظر إلى الحظ من الذات " سمو" ؛ قاله الحراني؛ و" الله" ؛ اسم عربي؛ لا سرياني معرب؛ وهو علم مختص بمبدع العالم؛ لم يطلق على غيره فيما بين المسلمين وغيرهم؛ ولا عنادا وغلوا في العتو مطلقا؛ وعلاقة الاشتقاق فيما بينه وبين غيره إنما تنافي علميته؛ لو ثبت أصالة ذلك الغير؛ ولم تثبت؛ واستظهار القاضي أنه وصف؛ غلب عليه؛ بحيث لم يستعمل في غيره؛ فصار كالعلم؛ لا علما؛ لأن ذاته غير معقول لنا؛ فلا يمكن الدلالة عليه بلفظ؛ ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوص؛ لما أفاد " وهو الله في السماوات" ؛ معنى صحيحا؛ تصدى جمع من أرباب الحواشي لدفعه؛ أما الأول فلأن علم الواضع عند الوضع بكنه حقيقة الموضوع له؛ وملاحظته لشخصه؛ لا ضرورة للزومه؛ بل يكفي ملاحظة انحصار ذلك الوجود في الخارج فيه؛ بدليل أن الأب يضع علما لولده قبل رؤيته؛ ولو سلم فلا مانع من كون الواضع هو الله (تعالى)؛ ثم عرفنا إياه؛ وأما الثاني فلأن الاسمية لا تقتضي الدلالة على مجرد الذات؛ فإن أسماء الزمان والمكان والآلة - مثلا - أسماء باتفاق؛ مع دلالتها على معنى زائد على الذات؛ ولو سلم فليكن تعلقه به باعتبار ملاحظة المعنى الوضعي الخارج عن الاسم؛ كذا حققه المولى حسن؛ بعدما رد على جميع ما لهم هنا من الأقاويل المتعسفة.

و" الإله" : أصله " أله" ؛ فلما دخلت " ال" ؛ حذفت الهمزة تخفيفا؛ وعوض عنها حرف التعريف؛ وإنما كانا عوضا عنها مع أن [ ص: 5 ] دخولهما قبل حذفها؛ لأن دخولهما قبل الحذف لا بطريق اللزوم؛ وبعده يكونان لازمين فيها؛ فباعتبار اللزوم يكونان عوضا؛ وهو اسم جنس لكل معبود؛ حق؛ أو باطل؛ ثم غلب منكرا على المعبود بحق؛ ثم خص بذاته بعد التعريف؛ مشتق من " أله" ؛ كـ " عبد" ؛ وزنا؛ ومعنى؛ أو من " أله" ؛ بمعنى: فزع وسكن؛ أو من " وله" ؛ أي: تحير ودهش؛ أو طرب؛ أو من " لاه" ؛ احتجب؛ أو ارتفع؛ أو استنار؛ أو غير.

والحاصل أن " إله" ؛ بمعنى " مألوه" ؛ أي: معبود؛ أو " مألوه فيه" ؛ أي: متحير فيه؛ وقس الباقي.

فمجموع الأقاويل: هو المعبود للخواص؛ والعوام؛ المفزوع إليه في الأمور العظام؛ المرتفع عن الأوهام؛ المحتجب عن الأفهام؛ الظاهر بصفاته العظام؛ الذي سكنت إلى عبادته الأجسام؛ وولعت به نفوس الأنام؛ وطربت إليه قلوب الكرام؛ ثم تفخم لامه إذا انفتح ما قبلها؛ أو ضم؛ طريقة مطردة لغة؛ أو مطلقا؛ وحذف ألفه لحن يبطل الصلاة؛ لانتفاء بعض لفظ الموضوع؛ ولا ينعقد به اليمين مطلقا؛ لابتنائه على وجود الاسم؛ ولم يوجد؛ و" البلة" ؛ إنما هي الرطوبة؛ وما أفهمه كلام القاضي من كونه كناية؛ وجه صحيح محرر؛ ومذهب النووي خلافه؛ ثم أعقب اسم الذات اسمين؛ بصفتي المبالغة في الرحمة؛ رمزا إلى سبقها؛ وغلبتها على الأضداد؛ وعدم انقطاعها؛ فقال: (الرحمن الرحيم) ؛ أي: الموصوف بكمال الإحسان بجميع النعم؛ أصولها وفروعها؛ عظائمها ودقائقها؛ أو بإرادة ذلك؛ فمرجعهما صفة فعل؛ أو صفة ذات؛ قال - في البحر -: وهو أقرب إلى الحقيقة؛ إذ الإرادة متقدمة على الفعل؛ وأصلهما واحد؛ لكونهما من " الرحمة" .

و" الرحمن" ؛ عربي؛ ونفور العرب منه لتوهمهم التعدد؛ وأتم مبالغة من " الرحيم" ؛ كما؛ وكيفا؛ لأن " فعيل" ؛ لمن وجد منه الفعل؛ و" فعلان" ؛ لمن كثر منه؛ وحق الأبلغ التأخير؛ قضاء لحق الترقي؛ لكنه قدم لمناسبة اسم الذات في اختصاصه به؛ إذ لم يطلقا على غيره مطلقا؛ إلا أن " الله" ؛ اسم؛ وهو قسم من العلم؛ كما تقرر؛ و" الرحمن" ؛ وصف أريد به الثناء؛ فأجري مجرى الأعلام؛ وليس بعلم حقيقة؛ ومجيئه غير تابع للعلم؛ بحذف موصوفه.

ووصفه (تعالى) بالرحمة؛ التي هي العطف؛ من إطلاق السبب على المسبب؛ وهو الإنعام والإحسان؛ إذ الملك إذا عطف رق؛ فأحسن؛ فإطلاقه عليه مجاز مرسل؛ أو استعارة تمثيلية؛ بل حاول بعض المحققين جعله حقيقة شرعية وعرفية؛ لكثرة الإطلاق؛ بدون قرينة؛ أو قصد تشبيه؛ وتعقيبه بـ " الرحيم" ؛ من قبيل التتميم؛ فإنه لما دل على جلائل النعم؛ أولى " الرحيم" ؛ دفعا لتوهم عدم التعميم؛ وخطور أن الدقائق مما لا يلتفت إليه؛ فلا يتطفل فيها عليه؛ ووفاقا لترتيب الوجود؛ لإيجاد النعم العامة قبل الخاصة؛ وكلاهما صفة مشبهة؛ أو " الرحيم" ؛ اسم فاعل؛ فـ " الرحمن" ؛ عام المعنى؛ خاص اللفظ؛ حيث لم يستعمل في غيره - تقدس -؛ ولم يوصف به أحد سواه؛ بين جميع الملل والنحل؛ إلا تعنتا؛ وغلوا في الكفر؛ كـ " رحمن اليمامة" ؛ و" الرحيم" ؛ بالعكس؛ وآثرهما من بين سائر الصفات لتضمنهما الدلالة على سائر الأسماء الحسنى؛ إذ من عمت رحمته؛ وتمت نعمته؛ انتفت عنه شوائب النقص؛ وطويت النقمة في إفهام اختصاص الثاني؛ رمزا إلى أن من شروط كمال حسن الترغيب الإشارة منه إلى مقام الترهيب؛ كما هو الأسلوب في كتب علام الغيوب؛ ليكون باعث الرجاء والخوف في قرن.

قال بعض الحكماء: والأحسن بيانية إضافة البسملة؛ قال صاحب القاموس: وإنما حذفت الألف من لفظ " رحمن" ؛ تخفيفا؛ ولم تحذف الياء من " الرحيم" ؛ خوفا من اللبس.

ولما افتتح كتابه بالبسملة؛ التي الافتتاح بها أجل افتتاح؛ باسم الحق - تقدس - وهي نوع من الحمد؛ ناسب أن يردفها باسم الحمد الكلي؛ الجامع لجميع أفراده؛ البالغ أقصى درجات الكمال من القول الدال على أنه - سبحانه - مالك لجميع المحامد بالاستقلال؛ فأعقبها به؛ في جملة أوقعها مقول القول؛ فانتصب به؛ تاركا للعطف؛ لئلا يشعر بالتبعية فيخل بالتسوية في أصل الابتداء؛ فقال: (الحمد لله) ؛ أي: الوصف بالجميل مملوك؛ أو مستحق لله (تعالى)؛ فلا فرد منه لغيره بالحقيقة؛ ولم يكتف بالتسمية؛ لما تقرر أن المقام مقام تعظيم؛ فاللائق به التصريح بالحمد؛ وقصره عليه؛ ولأنها - وإن تضمنت جهة الحمد - لكن من اقتصر عليها لا يسمى حامدا عرفا؛ ومن ثم وقع التدافع ظاهرا بين حديثي الابتداء؛ واحتيج للتوفيق بأن البداءة إما حقيقية؛ وهي ذكر الشيء أولا على الإطلاق؛ أو إضافية؛ وهي ذكره أولا بالإضافة إلى شيء دون شيء؛ وهذه صادقة بذكر الحمد قبل المقصود بالذات؛ وخص الحقيقي بالبسملة؛ لأنها ذكر الذات؛ و" الحمد" ؛ ذكر الوصف؛ فوجب تقديمها بقدر ما تندفع به ضرورة امتناع الجمع في المبدإ؛ كذا قرره " جمع" .

وقد انتهبه البعض؛ فعزاه لنفسه؛ بعدما أتى بترديدات بعيدة؛ واحتمالات [ ص: 6 ] غير سديدة؛ أو أن المراد في كل رواية الابتداء بأحدهما؛ أو بما يقوم مقامه؛ ولو ذكرا آخر؛ بقرينة تعبيره تارة بالبسملة؛ وأخرى بالحمدلة؛ وطورا بغيرهما؛ فاللازم في دفع الأجذمية الابتداء بأحد الأمور؛ لا بها كلها؛ أو بأن رواية البسملة والحمدلة تعارضتا؛ فسقط قيداهما؛ كما في غسلات الكلب؛ ورجع للمعنى الأعم؛ وهو إطلاق الذكر؛ والحمد يطلق على أعم من خصوصه؛ ألا ترى أن غالب الأعمال الشرعية لم يشرع الشارع افتتاحها بالحمد بخصوصه؛ كالصلاة؛ والأذان؛ والحج؟ فدل على أنه ليس المراد إلا إظهار صفة الكمال؛ وهو حاصل في نحو الصلاة بالتكبير؛ وفي الحج بالذكر المطلوب عند الإحرام؛ فلا يتوجه ما قيل: عموم الأخذ منه مشكل؛ بظاهر الصلاة والأذان؛ هذا محصول ما هنا من الأجوبة المرضية للعظماء؛ وثم أجوبة شهيرة وتوجيهات كثيرة؛ كلها مدخولة؛ وقد بينت ما عليها من نقل ورد؛ في شرح البهجة؛ بما لم يجمعه قبله كتاب.

ثم " الحمد" : النعت بالجميل على الجميل؛ أي: الفعل الحسن الصادر من المحمود؛ باختياره حقيقة؛ أو حكما؛ على وجه يشعر بتوجيهه إلى المنعوت للتعظيم ظاهرا وباطنا؛ بأن يقصد به إنشاء التعظيم على وجه التعميم؛ فلا بد لتحقق ماهيته في الوجود من أمور خمسة: محمود به؛ ومحمود عليه؛ وحامد؛ ومحمود؛ وما يدل على إنصاف المحمود بصفة؛ فالأول صفة تظهر اتصاف شيء بها؛ على وجه مخصوص؛ ويجب كونه صفة كمال؛ يدرك العاقل السليم القابل لدرك الحقائق حسنها؛ ولو بدقة نظر؛ أو تعلم؛ والمراد بالجميل أعم مما في الواقع؛ أو عند الحامد؛ أو المحمود؛ بزعم الحامد؛ فشمل النعت بنحو ظلم ادعى أحدهما حسنه؛ إذ المناط التعظيم؛ وقد وجد؛ ولا فرق بين كون المحمود ثبوتيا؛ أو سليبا؛ كما صرح به الإمام الرازي؛ ولا بين كونه من الكمالات المتعدية؛ كإنعام؛ وتعليم؛ وتسمى " فواضل" ؛ وغيرها؛ كعلم؛ وقدرة؛ وحسن؛ وتسمى " فضائل" ؛ ولا بين كونه صدر عن المحمود باختياره أو لا؛ فالوصف بكمال - نحو حسن؛ أو ذات - حمد؛ كما قرره النحرير الدواني؛ والعلامة صدر الأفاضل؛ في حواشي التجريد والمطالع؛ وقال المولى حسن الرومي : إنه الأشهر؛ وظاهره نقل ذلك عن قدماء القوم؛ وشهرته بينهم؛ وجزم به المحقق خسرو الرومي؛ حيث قال: الحمد يقتضي محمودا به؛ أعم من كونه اختيارا أو لا؛ وبه يمتاز عن الأشهر؛ ومحمودا عليه؛ اختياريا؛ وبه يمتاز عن المدح؛ أعم من كونه إنعاما؛ أو غيره؛ وبه يمتاز عن الشكر؛ انتهى؛ لكن نقل الدواني في شرح التهذيب عن البعض وجوب كون المحمود به اختياريا؛ ثم اختاره؛ موجها بأن الجميل صفة الفعل؛ وهو بالاختيار؛ كما ذكره التفتازاني؛ وأيد بأنه لم يثبت لغة عموم المحمود به اختيارا؛ حتى يصرف ذلك للمحمود عليه؛ فالأصل كون المحمود به اختياريا مثله؛ وكما لم يسمع الحمد على صباحة الخد؛ ورشاقة القد؛ لم يسمع الحمد بهما؛ فما لا اختيار فيه لا يحمد به؛ ولا عليه؛ وعدم حمد اللؤلؤ؛ كما يمكن كونه؛ من جهة اشتراط أن المحمود عليه يجب كونه اختياريا؛ فكذا من جهة اشتراط المحمود به فعلا؛ فجعله دليلا على أحدهما فقط تحكم؛ والثاني ما يقع الوصف الجميل بإزائه؛ ومقابله؛ بمعنى أن المنعوت لما اتصف به ذكر جميله؛ وأظهر كماله؛ فهو لأجل حصوله له؛ ولولاه لم يتحقق ذلك الوصف؛ فهو كالعلة الباعثة للواصف على الوصف؛ أو هو علته؛ وقد يكون الشيء الواحد محمودا به؛ وعليه؛ معا؛ كأن رأى من ينعم؛ أو يصلي؛ فأظهر اتصافه بذلك؛ فتلك الصفة من حيث بعثها على إظهار اتصافه بها؛ محمود عليها؛ ومن حيث اتصافه وإظهار كونها من صفاته؛ محمود بها؛ ويجب في المحمود عليه كونه كمالا؛ فغيره لا يصلح سببا لإظهار الكمال؛ والمراد أعم مما في ظن الحامد؛ أو المحمود؛ على قياس ما سبق في المحمود به؛ وظاهر كلام الجمهور أن المحمود عليه أعم من كونه فعلا صادرا من المحمود؛ أو كيفية قائمة به؛ لكن في شرح الكشاف؛ للسعد؛ تبعا للرازي؛ أن المراد فعل جميل؛ فلا يكفي أن يكون للمحمود دخل في صدوره عن غيره؛ لا على وجه الفاعلية؛ لانتفاء الفعل المشترط؛ إذ التعظيم حينئذ من حيث تعلق الصفة به؛ لا من حيث كونه فعلا؛ فمعنى قول الشريف: يختص الحمد بالفاعل المختار؛ أنه فاعل للمحمود عليه؛ ثم المشهور بين الجمهور أن المحمود عليه يشترط حصوله من المحمود؛ باختياره حقيقة؛ أو حكما؛ فالثناء على صفاء اللؤلؤ ورشاقة القد وصباحة الخد مدح؛ لا حمد؛ ولا يشكل بقوله - سبحانه -: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ؛ لأنه من وصف الشيء بوصف صاحبه؛ أو أن الحمد فيه مجاز عن المدح؛ ولا بقول الشاعر:


أرى الصبر محمودا عواقبه ... .....................



وقوله:


والصبر يحمد في المواطن كلها ...      .................



لأنه - كما قال خسرو - بمعنى: الرضا؛ لمجيئه في اللغة لذلك أيضا؛ وبتعميم الاختيار وقع الإشكال بثنائه - سبحانه - على صفاته الذاتية؛ لأنها غير مسبوقة بالاختيار؛ وإلا لزم حدوثها؛ كما قرر في محله؛ وما ذاك إلا لأن الذات لما كانت مستقلة في تحققها [ ص: 7 ] من غير مدخلية شيء من الأغيار؛ بمعنى أنه إن شاء فعل؛ وإن شاء ترك؛ نزل منزلة الاختياري؛ لتكون في حكمه؛ أو أنها لما ترتبت عليها أمور اختيارية جعلت في حكمه؛ فالمراد ما كان اختياريا نفسه؛ أو أثره؛ وههنا تنبيه؛ وهو أن ما تقرر من اشتراط الاختيار إنما هو بالنظر إلى الحقيقة؛ أما المجاز فلا؛ كما يصرح به كلام الزمخشري؛ حيث قال: ومن المجاز: " حمدت الأرض" ؛ رضيت سكناها؛ و" الرعاة يتحامدون الكلأ" ؛ و" جاورته فما حمدت جواره" ؛ و" أفعاله حميدة" ؛ و" هذا طعام ليست عنده محمدة" ؛ أي: لا يحمده آكله؛ والثالث؛ وهو من يتحقق منه الحمد؛ وشرطه أن يكون معظما بذاته للمحمود في سائر أقواله وجميع أفعاله؛ ظاهرا وباطنا؛ بأن يقصد به إظهار التعظيم على جهة التعميم؛ فلو اقترن بما دل عليه الوصف بالكمال؛ من التعظيم والعظمة؛ من جميع الوجوه؛ إلا جهة واحدة فاقترن منها بتحقير؛ أو استهزاء؛ أو تهكم؛ كما لو صدر بفعل أكبر الجوارح؛ مع مخالفته جارحة واحدة؛ لم يكن حمدا؛ لأن التعظيم الظاهري والباطني إنما يتحقق تفاوتهما باعتبار قيد زائد؛ هو اعتبار العموم في الأفراد؛ وإذا كان بعض أفراده صارفا عن التعظيم فلا يتحقق التعظيم؛ كذا حققه صدر الأفاضل؛ وأيد بأن التعظيم والتحقير من شخص واحد في آن واحد لا يجتمعان؛ فإن فرض اجتماعهما لم يتبادر منه إلا التحقير؛ فكأنه نص في التحقير؛ فحمل المحتمل عليه؛ والتحقير في القبيح؛ والذم أتم وأشد من التعظيم في الحسن والكمال؛ ألا ترى أن أدنى ما يوهم الاستهزاء أو التهكم؛ يوجب الذم والعقوبة؟ وقل ما يترتب على صريح التعظيم ما يناسبه إذا قل؛ لكن لا يلزم اعتقاد اتصاف المحمود بالجميل المذكور عند المحققين؛ بل الشرط عدم اقترانه بشوب تحقير؛ فدخل الوصف بما قطع بانتفائه؛ كما مر؛ قال الدواني: ولا يناقضه توجيه الشريف لاشتراط التعظيمين؛ بأنه إذا عري عن مطابقة الاعتقاد؛ لم يكن حمدا؛ بل سخرية؛ لأنه أراد بالاعتقاد لازمه؛ وهو إنشاء التعظيم؛ لا معناه الحقيقي؛ فإن الحمد قد يكون إنشائيا؛ ولا معنى لمطابقة الاعتقاد فيه؛ لأن ما لا يتعلق به الاعتقاد لا يوصف حقيقة بمطابقة الاعتقاد؛ إذ المتبادر من مطابقة الاعتقاد الاتحاد في الإيجاب؛ والسلب؛ أو ما يستلزمه؛ أو يؤول إليه؛ وهذا لا يوجد إلا في القضايا؛ ولذلك لا تسمع من أحد من أهل الاصطلاح أن التصوير يطابق الاعتقاد؛ بل لو قال أحد: إن تصور مفهوم - نحو " اضرب" - يطابق الاعتقاد؛ نسبه أهل العرف الخاص لما يكره؛ وحمل المطابقة على هذا المعنى أقرب من التزام اتصاف التصورات بالمطابقة؛ واللامطابقة؛ إذ ليس في هذا المعنى إلا ذكر الملزوم؛ وإرادة اللازم؛ مع أن أهل العرف العام قد يطلقون الاعتقاد بهذا المعنى؛ يقال: " فلان له اعتقاد في فلان" ؛ ويراد مثل ذلك؛ ولا بعد فيه؛ لأنهم يعدون الوصف بالجميل المعلوم الانتفاء - إذا كان كذلك - مدحا؛ وحمدا؛ كالقصائد المشتملة على وصف الممدوح بما هو محقق الانتفاء؛ إلى هنا كلام الدواني؛ قال: وأما الجواب بأن الواصف يعتقد اتصاف الممدوح بما ذكر؛ وأنهم أرادوا معاني مجازية؛ واعتقدوا اتصاف المنعوت بها؛ فيرده أن الأول خلاف البديهة؛ والثاني خلاف الواقع؛ أهـ.

واعترضه صدر الأفاضل بأن الأول لو كان خلاف البديهة لم يقصد العقلاء إفادته؛ ولم يكن اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي؛ والثاني لو كان خلاف الواقع؛ لما كان الكلام مستعملا في معناه المجازي؛ فيلزم ألا يكون الكلام المذكور حقيقة؛ ولا مجازا؛ انتهى.

وأجابه الدواني بما نصه: هذا السيد الفاضل لم يتذكر أنه لا يلزم من عدم اعتقاد مدلول الكلام ألا يكون الكلام مستعملا فيه؛ فإن الأخبار التي مضمونها خلاف اعتقاد المتكلم - كقول السني المخفي حاله عن المعتزلي: العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية - مستعملة في معناها الحقيقي؛ مع أنه لا يعتقدها؛ بل جميع الأكاذيب التي يتعمدها أهلها كذلك؛ ثم إنه حمل قوله: والأول خلاف البديهة؛ على أن مضمون تلك الأخبار خلاف البديهة؛ وفرع عليه أنه يلزم ألا يقصد العقلاء إفادته؛ ويرد عليه منع الملازمة؛ فإن الأكاذيب التي يتعمدها المتكلم العاقل قد تخالف البديهة؛ مع قصد المتكلم إفادتها؛ لغرض من الأغراض؛ كتغليط المخاطب؛ أو تبكيته؛ أو امتحانه؛ أو للتخييل؛ فلا يلزم ألا يكون ذلك الكلام حقيقة؛ ولا مجازا؛ كما توهمه؛ والأخبار قد يقصد بها إفادة التصديق بمضمونها؛ إما جزما؛ أو ظنا؛ وقد يقصد بها إفادة التخييل؛ كما في القضايا الشعرية؛ انتهى.

التالي السابق


الخدمات العلمية