الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم .

                                                                                                                                                                                                                                      الحمد لله الذي شرفنا على الأمم بالقرآن المجيد ، ودعانا بتوفيقه على الحكم إلى الأمر الرشيد ، وقوم به نفوسنا بين الوعد والوعيد ، وحفظه من تغيير الجهول ، وتحريف العنيد ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .

                                                                                                                                                                                                                                      أحمده على التوفيق للتحميد ، وأشكره على التحقيق في التوحيد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة يبقى ذخرها على التأييد ، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله إلى القريب والبعيد ، بشيرا للخلائق ونذيرا ، وسراجا في الأكوان منيرا ، ووهب له من فضله خيرا كثيرا ، وجعله مقدما على الكل كبيرا ، ولم يجعل له من أرباب جنسه نظيرا ، ونهى أن يدعى باسمه تعظيما له وتوقيرا ، وأنزل عليه كلاما قرر صدق قوله بالتحدي بمثله تقريرا فقال: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [الإسراء: 88 ] فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأزواجه وأشياعه ، وسلم تسليما كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      لما كان القرآن العزيز أشرف العلوم ، كان الفهم لمعانيه أوفى الفهوم; لأن شرف العلم بشرف المعلوم ، وإني نظرت في جملة من كتب التفسير فوجدتها بين كبير قد يئس الحافظ منه ، وصغير لا يستفاد كل المقصود منه ، والمتوسط منها قليل الفوائد ، عديم الترتيب ، وربما أهمل فيه المشكل ، وشرح غير الغريب ، فأتيتك بهذا المختصر اليسير ، منطويا على العلم الغزير ، ووسمته بـ: [ ص: 4 ] " زاد المسير في علم التفسير" .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد بالغت في اختصار لفظه ، فاجتهد وفقك الله في حفظه ، والله المعين على تحقيقه ، فما زال جائدا بتوفيقه .

                                                                                                                                                                                                                                      فصل في فضيلة علم التفسير

                                                                                                                                                                                                                                      روى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن ابن مسعود قال: كنا نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر ، فلا نجاوزها إلى العشر الآخر حتى نعلم ما فيها من العلم والعمل .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى قتادة عن الحسن أنه قال: ما أنزل الله آية إلا أحب أن أعلم فيم أنزلت ، وماذا عنى بها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال إياس بن معاوية: مثل من يقرأ القرآن ومن يعلم تفسيره أو لا يعلم ، مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلا ، وليس عندهم مصباح ، فتداخلهم لمجيء الكتاب روعة لا يدرون ما فيه ، فإذا جاءهم المصباح عرفوا ما فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      اختلف العلماء: هل التفسير والتأويل بمعنى ، أم يختلفان؟ فذهب قوم يميلون إلى العربية إلى أنهما بمعنى ، وهذا قول جمهور المفسرين المتقدمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما ، فقالوا: التفسير: إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التجلي .

                                                                                                                                                                                                                                      والتأويل: نقل الكلام عن وضعه فيما يحتاج في إثباته إلى دليل [لولاه ] ما ترك ظاهر اللفظ ، فهو مأخوذ من قولك: آل الشيء إلى كذا ، أي: صار إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 5 ] فصل في مدة نزول القرآن

                                                                                                                                                                                                                                      روى عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر إلى بيت [العزة ، ثم ] أنزل بعد ذلك في عشرين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشعبي: فرق الله تنزيل القرآن ، فكان بين أوله وآخره عشرون سنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن: ذكر لنا أنه كان بين أوله وآخره ثماني عشرة سنة ، أنزل عليه بمكة ثماني سنين .

                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا في أول ما نزل من القرآن ، فأثبت المنقول: أن أول ما نزل: اقرأ باسم ربك [ العلق: 1 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      رواه عروة عن عائشة وبه قال قتادة وأبو صالح .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن جابر بن عبد الله: أن أول ما نزل يا أيها المدثر [ المدثر: 1 ] والصحيح أنه لما نزل عليه: اقرأ باسم ربك رجع فتدثر فنزل: يا أيها المدثر يدل عليه ما أخرج [في ] "الصحيحين" من حديث جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي ، فقال في حديثه: "فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت منه رعبا ، فرجعت فقلت: زملوني ، زملوني ، فدثروني ، فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر ومعنى جثثت: فرقت .

                                                                                                                                                                                                                                      يقال: رجل مجؤوث [ومجثوث ] وقد صحفه بعض الرواة فقال: جبنت من الجبن ، والصحيح الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن الحسن وعكرمة: أن أول ما نزل: بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 6 ] فصل

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا في آخر ما نزل ، فروى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس ، قال: آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، آية الربا ، وفي أفراد مسلم عنه: آخر سورة نزلت جميعا إذا جاء نصر الله والفتح [ النصر: 1 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الضحاك عن ابن عباس قال: آخر آية أنزلت واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [ البقرة: 281 ] وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي صالح .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى أبو إسحاق عن البراء قال: آخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ النساء: 176 ] وآخر سورة نزلت (براءة) وروي عن أبي بن كعب: أن آخر آية نزلت: لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ التوبة: 138 ] إلى آخر السورة .

                                                                                                                                                                                                                                      فصل

                                                                                                                                                                                                                                      لما رأيت جمهور كتب المفسرين لا يكاد الكتاب منها يفي بالمقصود كشفه حتى ينظر للآية الواحدة في كتب ، فرب تفسير أخل فيه بعلم الناسخ والمنسوخ ، أو ببعضه ، فإن وجد فيه لم يوجد أسباب النزول ، أو أكثرها ، فإن وجد لم يوجد بيان المكي من المدني ، وإن وجد ذلك لم توجد الإشارة إلى حكم الآية ، فإن وجد لم يوجد جواب إشكال يقع في الآية ، إلى غير ذلك من الفنون المطلوبة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أدرجت في هذا الكتاب من هذه الفنون المذكورة مع ما لم أذكره مما [ ص: 7 ] لا يستغني التفسير عنه ما أرجو به وقوع الغناء بهذا الكتاب عن أكثر ما يجانسه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد حذرت من إعادة تفسير كلمة متقدمة إلا على وجه الإشارة ، ولم أغادر من الأقوال التي أحطت بها إلا ما تبعد صحته مع الاختصار البالغ ، فإذا رأيت في فرش الآيات ما لم يذكر تفسيره ، فهو لا يخلو من أمرين ، إما أن يكون قد سبق ، وإما أن يكون ظاهرا لا يحتاج إلى تفسير .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد انتقى كتابنا هذا أنقى التفاسير ، فأخذ منها الأصح والأحسن والأصون ، فنظمه في عبارة الاختصار .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا حين شروعنا فيما ابتدأنا له ، والله الموفق .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية