الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين وعليه نتوكل الحمد لله المتصف بصفات الكمال ، المنعوت بنعوت الجلال والجمال ، المنفرد بالإنعام والإفضال ، والعطاء والنوال ، المحسن المجمل على ممر الأيام والليالي . أحمده حمدا لا تغير له ولا زوال . وأشكره شكرا لا تحول له ولا انفصال . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا مثل ولا مثال ، شهادة أدخرها ليوم لا بيع فيه ولا خلال . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، الداعي إلى أصح الأقوال ، وأسد الأفعال ، المحكم للأحكام ، والمميز بين الحرام والحلال . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب وخير آل ، صلاة دائمة بالغدو والآصال .

أما بعد ، فإن كتاب " المقنع " في الفقه تأليف شيخ الإسلام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي قدس الله روحه ، ونور ضريحه من أعظم الكتب نفعا ، وأكثرها جمعا ، وأوضحها إشارة ، وأسلسها عبارة ، وأوسطها حجما ، وأغزرها علما ، وأحسنها تفصيلا وتفريعا ، وأجمعها تقسيما وتنويعا ، وأكملها ترتيبا ، وألطفها تبويبا . قد حوى غالب أمهات مسائل المذهب ، فمن حصلها فقد ظفر بالكنز والمطلب . فهو كما قال مصنفه فيه " جامعا لأكثر الأحكام " ولقد صدق وبر ونصح . فهو الحبر الإمام . فإن من نظر فيه بعين التحقيق والإنصاف ، وجد ما قال حقا وافيا بالمراد من غير خلاف ، إلا أنه رحمه الله تعالى أطلق في بعض مسائله الخلاف من غير ترجيح . فاشتبه على الناظر فيه الضعيف من الصحيح . فأحببت إن يسر الله تعالى أن أبين الصحيح من المذهب والمشهور ، والمعمول عليه والمنصور ، وما اعتمده أكثر الأصحاب ، وذهبوا إليه ، ولم يعرجوا على غيره ولم يعولوا عليه . [ ص: 4 ] فصل اعلم رحمك الله تعالى : أن المصنف رحمه الله تعالى يكرر في كتابه أشياء كثيرة ، عبارته فيها مختلفة الأنواع ، فيحتاج إلى تبيينها ، وأن يكشف عنها القناع . فإنه : تارة يطلق " الروايتين " أو " الروايات " أو " الوجهين " أو " الوجه " أو " الأوجه " أو " الاحتمالين " أو " الاحتمالات " بقوله " فهل الحكم كذا ؟ على روايتين ، أو على وجهين ، أو فيه روايتان ، أو وجهان ، أو احتمل كذا واحتمل كذا " ونحو ذلك . فهذا وشبهه الخلاف فيه مطلق . والذي يظهر : أن إطلاق المصنف وغالب الأصحاب ليس هو لقوة الخلاف من الجانبين . وإنما مرادهم : حكاية الخلاف من حيث الجملة . بخلاف من صرح باصطلاح ذلك ، كصاحب الفروع ، ومجمع البحرين وغيرهما . وتارة يطلق الخلاف بقوله مثلا " جاز ، أو لم يجز ، أو صح ، أو لم يصح ، في إحدى الروايتين ، أو الروايات ، أو الوجهين أو الوجوه " أو بقوله " ذلك على إحدى الروايتين ، أو الوجهين " والخلاف في هذا أيضا مطلق ، لكن فيه إشارة ما إلى ترجيح الأول . وقد قيل : إن المصنف قال " إذا قلت ذلك ، فهو الصحيح ، وهو ظاهر مصطلح الحارثي في شرحه " وفيه نظر . فإن في كتابه مسائل كثيرة يطلق فيها الخلاف بهذه العبارة . وليست المذهب ، ولا عزاها أحد إلى اختياره . كما يمر بك ذلك إن شاء الله تعالى . ففي صحته عنه بعد ، وربما تكون الرواية أو الوجه المسكوت عنه مقيدا بقيد ، فأذكره : وهو في كلامه كثير .

وتارة يذكر حكم المسألة مفصلا فيها . ثم يطلق روايتين فيها ، ويقول " في الجملة " بصيغة التعريض . كما ذكره في آخر الغصب ، أو يحكي بعد ذكر الحكم إطلاق الروايتين عن الأصحاب . كما ذكره في باب الموصى له . ويكون في ذلك أيضا تفصيل ، فنبينه إن شاء الله تعالى . [ ص: 5 ] وتارة يطلق الخلاف بقوله بعد ذكر حكم المسألة " يحتمل وجهين " والغالب : أن ذلك وجهان للأصحاب . إلا أنه لم يطلع على الخلاف ، فوافق كلامهم ، أو تابع عبارة غيره . وتارة يقول " فعنه كذا ، وعنه كذا " كما قاله في باب النذر ، والمعروف من المصطلح : أن الخلاف فيه مطلق . وتارة يقول " فقال فلان كذا ، وقال فلان كذا " كما ذكره في باب الإقرار بالمجمل ، وغيره . وهذا من جملة الخلاف المطلق فيما يظهر . وتارة يقول بعد حكم المسألة " ذكره فلان ، وقال فلان كذا ، أو عند فلان كذا ، وعند فلان كذا " كما ذكره في باب جامع الأيمان ، وكتاب الإقرار وغيرهما . وهذا في قوة الخلاف المطلق . ولو قيل : إن فيه ميلا إلى قوة القول الأول لكان له وجه . وتارة يقول بعد ذكر الحكم " حكم المسألة في قول فلان ، أو فقال فلان كذا ، وقال غيره كذا " كما ذكره في باب الأضحية والشفعة والنذر . وهذا أيضا في قوة الخلاف المطلق .

وتارة يقول بعد ذكر حكم المسألة " عند فلان ، ويحتمل كذا . أو فقال فلان كذا ، ويحتمل كذا " كما ذكره في أواخر باب جامع الأيمان ، وأواخر باب شروط من تقبل شهادته . فظاهر هذه العبارة : أنه ما اطلع على غير ذلك القول ، وذكر هو الاحتمال . وقد يكون تابع عبارة غيره . وقد يكون في المسألة خلاف فننبه عليه .

وتارة يقول " فقال فلان كذا " ويقتصر عليه ، من غير ذكر خلاف . فقد لا يكون فيها خلاف ، كما ذكره عن القاضي في باب الفدية ، في الضرب الثالث في الدماء الواجبة . فهو في حكم المجزوم به . وقد يكون فيها خلاف ، كما ذكره عن القاضي في باب الهبة . [ ص: 6 ] وتارة يقول بعد ذكر حكم المسألة " في رواية " كما ذكره في واجبات الصلاة ، وباب محظورات الإحرام . أو يقول " في وجه " كما ذكره في أركان النكاح . ففي هذا يكون اختياره في الغالب خلاف ذلك . وفيه إشعار بترجيح المسكوت عنه ، مع احتمال الإطلاق .

وقد قال في الرعاية الكبرى في كتاب النفقات " وإن كان الخادم لها ، فنفقته على الزوج ، وكذا نفقة المؤجر والمعار في وجه " قال في الفروع " وقوله في وجه يدل على : أن الأشهر خلافه " . وتارة يحكي الخلاف وجهين ، وهما روايتان . وقد يكون الأصحاب اختلفوا في حكاية الخلاف . فمنهم من حكى وجهين . ومنهم من حكى روايتين . ومنهم من ذكر الطريقتين . فأذكر ذلك إن شاء الله تعالى . وتارة يذكر حكم المسألة ، ثم يقول " وعنه كذا . أو وقيل ، أو وقال فلان . أو ويتخرج . أو ويحتمل كذا " والأول هو المقدم عند المصنف وغيره . وقل أن يوجد ذلك التخريج أو الاحتمال إلا وهو قول لبعض الأصحاب ، بل غالب الاحتمالات للقاضي أبي يعلى في " المجرد " وغيره . وبعضها لأبي الخطاب ولغيره . وقد تكون للمصنف . وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى . " فالتخريج " في معنى الاحتمال . و " الاحتمال " في معنى " الوجه " إلا أن الوجه مجزوم بالفتيا به ، قاله في " المطلع " يعني من حيث الجملة . وهذا على إطلاقه فيه نظر ، على ما يأتي في أواخر كتاب القضاء . وفي القاعدة آخر الكتاب . و " الاحتمال " تبيين أن ذلك صالح لكونه وجها . ف " التخريج " نقل حكم مسألة إلى ما يشبهها ، والتسوية بينهما فيه . و " الاحتمال " يكون : إما لدليل مرجوح بالنسبة إلى ما خالفه . أو لدليل مساو له . ولا يكون التخريج أو الاحتمال إلا إذا فهم المعنى . و " القول " يشمل الوجه ، والاحتمال ، والتخريج . وقد يشمل الرواية ، [ ص: 7 ] وهو كثير في كلام المتقدمين ، كأبي بكر ، وابن أبي موسى وغيرهما . والمصطلح الآن على خلافه . وربما يكون ذلك القول الذي ذكره المصنف ، أو الاحتمال ، أو التخريج رواية عن الإمام أحمد .

وربما كان ذلك هو المذهب ، كما ستراه إن شاء الله تعالى مبينا . وتارة يذكر حكم المسألة ، ثم يقول " وقيل عنه كذا " كما ذكره في باب الموصى له ، وعيوب النكاح . أو " وحكي عنه كذا " كما ذكره في باب نواقض الوضوء وغيره . أو " وحكي عن فلان كذا " كما ذكره في باب القسمة ، بصيغة التعريض في ذلك . وقد يكون بعضهم أثبته لصحته عنده فتبينه . وتارة يحكي الخلاف في المسألة ، ثم يقول : قال فلان كذا " بغير واو . ولا يكون ذلك في الغالب إلا موافقا لما قبله . لكن ذكره لفائدة ، إما لكونه أعم ، أو أخص من الحكم المتقدم ، أو يكون مقيدا أو مطلقا ، والحكم بخلافه ونحوه . وربما ذكر ذلك لمفهوم ما قبله ، كما ذكره في العاقلة عن أبي بكر . وهي عبارة عقدة .

وتارة يقول بعد ذكر المسألة " في ظاهر المذهب . أو وظاهر المذهب كذا . أو في الصحيح من المذهب . أو في الصحيح عنه . أو في المشهور عنه " ولا يقول ذلك إلا وثم خلاف . والغالب : أن ذلك كما قال . وقد يكون ظاهر المذهب . والصحيح من المذهب عنده دون غيره ، كما ذكره في باب سجود السهو وغيره . و " ظاهر المذهب " هو المشهور في المذهب .

وتارة يقول " في أصح الروايتين ، أو الوجهين . أو على أظهر الروايتين ، [ ص: 8 ] أو الوجهين " ولا تكاد تجد ذلك إلا المذهب . وقد يكون المذهب خلافه ، ويكون الأصح والأظهر عند المصنف ومن تابعه .

وتارة يطلق الخلاف ، ثم يقول " أولاهما كذا " كما ذكره في تفريق الصفقة والعدد . وهذا يكون اختياره ، وقد يكون المذهب كما في العدد . وتارة يقول بعد حكايته الخلاف " والأول أصح ، أو وهي أصح " كما ذكره في الكفاءة وغيرها ، ويكون في الغالب كما قال وقد يكون ذلك اختياره . وتارة يقول " والأول أقيس وأصح " كما قاله في المساقاة . أو " والأول أحسن " كما ذكره في آخر باب ميراث الغرقى والهدمى . وهذا يكون اختياره .

وتارة يصرح باختياره فيقول " وعندي كذا . أو هذا الصحيح عندي . أو والأقوى عندي كذا . أو والأولى كذا . أو وهو أولى " وهذا في الغالب يكون رواية ، أو وجها . وقد يكون اختاره بعض الأصحاب . وربما كان المذهب . وتارة يقدم شيئا ، ثم يقول " والصحيح كذا " كما ذكره في كتاب العتق وغيره . ويكون كما قال . وربما كان ذلك اختياره . وتارة يقول " قال أصحابنا ، أو وقال أصحابنا ، أو وقال بعض أصحابنا كذا ، ونحوه " وقد عرف من اصطلاحه : أن اختياره مخالف لذلك . وتارة يقول " اختاره شيوخنا ، أو عامة شيوخنا " كما ذكره في كتاب الظهار ، وفي آخر باب طريق الحكم وصفته . وتارة يقول " نص عليه ، وهو اختيار الأصحاب " كما ذكره في باب طريق الحكم وصفته . والمذهب يكون كذلك . وتارة يذكر الحكم ، ثم يقول " هذا المذهب " ثم يحكي خلافا . كما ذكره في باب صريح الطلاق وكنايته . أو يذكر قولا ، ثم يقول " والمذهب كذا " كما ذكره في باب الاستثناء في الطلاق . أو يقول " والمذهب الأول " كما ذكره في كتاب النفقات . ويكون المذهب كما قال . [ ص: 9 ] وتارة يذكر حكم المسألة ، ثم يقول " أومأ إليه أحمد ، وعند فلان كذا " كما ذكره في باب الربا . أو يقدم حكما ، ثم يقول " وأومأ في موضع بكذا " كما ذكره في كتاب الغصب . وهذا يؤخذ من مدلول كلامه . وتارة يقول " ويفعل كذا في ظاهر كلامه " كما ذكره في باب ستر العورة ، والغصب ، وشروط القصاص ، والزكاة والقضاء . و " الظاهر " من الكلام هو : اللفظ المحتمل معنيين فأكثر ، هو في أحدهما أرجح . أو ما تبادر منه عند إطلاقه معنى ، مع تجويز غيره . ويأتي هذا والذي قبله وغيرهما أول القاعدة آخر الكتاب . وتارة يقول " نص عليه ، أو والمنصوص كذا ، أو قال أحمد كذا ونحوه " وقد يكون في ذلك خلاف فأذكره ، وربما ذكره المصنف . و " النص " و " المنصوص " هو : الصريح في معناه .

وتارة يقطع بحكم مسألة ، وقد يزيد فيها ، فيقول " بلا خلاف في المذهب " كما ذكره في كتاب القضاء وغيره . أو يقول " وجها واحدا . أو رواية واحدة " وهو كثير في كلامه . ويكون في الغالب فيها خلاف كما ستراه . وربما كان المسكوت عنه هو المذهب ، بل ربما جزم في كتبه بشيء والمذهب خلافه . كما ذكره في كتاب الطهارة في مسألة اشتباه الطاهر بالطهور .

وتارة يذكر المسألة ، ثم يقول " فالقياس كذا " ثم يحكي غيره ، كما ذكره في كتاب الديات . أو يذكر الحكم ، ثم يقول " والقياس كذا " كما ذكره في باب تعارض البينتين . أو يذكر حكم المسألة ، ثم يقول " في قياس المذهب " ويقتصر عليه ، كما ذكره في كتاب الصداق واللعان . أو يذكر الحكم ، ثم يقول " وقياس المذهب كذا " كما ذكره في باب الهبة . وفي الغالب يكون ذلك اختياره . وربما كان المذهب ، كما ستراه .

وتارة يحكي بعض الأقوال ، ثم يقول " ولا عمل عليه " كما ذكره في كتاب [ ص: 10 ] الفرائض ، وأحكام أمهات الأولاد ، وشروط القصاص . وربما قواه بعض الأصحاب واختاره ، فيكون قوله ، ولا عمل عليه عنده وعند من تابعه .

وتارة يقول هو أو غيره ، بعد حكايته الخلاف " هذا قول قديم ، رجع عنه " كما ذكره في الغصب ، والهبة وغيرهما . وقد يكون اختاره بعض الأصحاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية