الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام العالم العامل شيخ الإسلام ، قدوة الأنام ، مجموع الفضائل ، موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ، قدس الله روحه ، ونور ضريحه : الحمد لله بارئ البريات ، وغافر الخطيات ، وعالم الخفيات ، المطلع على الضمائر والنيات ، أحاط بكل شيء علما ، ووسع كل شيء رحمة وحلما ، وقهر كل مخلوق عزة وحكما { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما } ، لا تدركه الأبصار ، ولا تغيره الأعصار ، ولا تتوهمه الأفكار ، { وكل شيء عنده بمقدار } ، أتقن ما صنع وأحكمه ، وأحصى كل شيء وعلمه ، وخلق الإنسان وعلمه ، ورفع قدر العلم وعظمه ، وحظره على من استرذله وحرمه ، وخص به من خلقه من كرمه ، وحض عباده المؤمنين على النفير للتفقه في الدين ، فقال تعالى وهو أصدق القائلين : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } ، ندبهم إلى إنذار بريته ، كما ندب إلى ذلك أهل رسالته ، ومنحهم ميراث أهل نبوته ، ورضيهم للقيام بحجته ، والنيابة عنه في الإخبار بشريعته ، واختصهم من بين عباده بخشيته ، فقال تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } ، ثم أمر سائر الناس بسؤالهم ، والرجوع إلى أقوالهم ، وجعل علامة زيغهم وضلالهم ذهاب علمائهم ، واتخاذ الرءوس من جهالهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا ، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا } . وصلى الله على خاتم الأنبياء ، وسيد الأصفياء ، وإمام العلماء ، وأكرم من مشى تحت أديم السماء ، محمد نبي الرحمة ، الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة ، والكاشف برسالته جلابيب الغمة ، وخير نبي بعث إلى خير أمة ، أرسله الله بشيرا ونذيرا ، { وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا .

                                                                                                                                            أما بعد : فإن الله تعالى برحمته وطوله ، وقوته وحوله ، ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم ، واقتداءهم بأئمتهم وفقهائهم ، وجعل هذه الأمة مع علمائها ، كالأمم الخالية مع أنبيائها ، وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها ، وينتهى إلى رأيها ، وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام ، مهد بهم قواعد الإسلام ، وأوضح بهم مشكلات الأحكام ، اتفاقهم حجة قاطعة ، واختلافهم رحمة واسعة ، تحيا القلوب بأخبارهم ، وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم ، ثم اختص منهم نفرا أعلى أقدارهم ومناصبهم وأبقى ذكرهم ومذاهبهم فعلى أقوالهم مدار الأحكام ، وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام .

                                                                                                                                            وكان إمامنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، رضي الله عنه ، من أوفاهم فضيلة ، وأقربهم إلى الله وسيلة ، وأتبعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم به ، وأزهدهم في الدنيا وأطوعهم لربه ، فلذلك وقع اختيارنا على مذهبه .

                                                                                                                                            وقد أحببت أن أشرح مذهبه واختياره ، ليعلم ذلك من اقتفى آثاره ، وأبين في كثير من المسائل ما اختلف فيه مما أجمع عليه ، وأذكر لكل إمام ما ذهب إليه ، تبركا بهم ، وتعريفا لمذاهبهم ، وأشير إلى دليل بعض أقوالهم على سبيل الاختصار ، والاقتصار من ذلك على المختار ، وأغزو ما أمكنني غزوه من الأخبار ، إلى كتب الأئمة من علماء الآثار ، لتحصل الثقة بمدلولها ، والتمييز بين صحيحها ومعلولها ، فيعتمد على معروفها ، ويعرض عن مجهولها .

                                                                                                                                            ثم رتبت ذلك على شرح مختصر أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي ، رحمه الله ، لكونه كتابا مباركا نافعا ، ومختصرا موجزا جامعا ، ومؤلفه إمام كبير ، صالح ذو دين ، أخو ورع ، جمع العلم والعمل ، فنتبرك بكتابه ، ونجعل الشرح مرتبا على مسائله وأبوابه ، ونبدأ في كل مسألة بشرحها وتبيينها ، وما دلت عليه بمنطوقها ومفهومها ومضمونها ، ثم نتبع ما يشابهها مما ليس بمذكور في الكتاب ، فتحصل المسائل كتراجم الأبواب .

                                                                                                                                            وبالله أعتصم وأستعين فيما أقصده ، وأتوكل عليه فيما أعتمده ، وإياه أسأل أن يوفقنا ويجعل سعينا مقربا إليه ، ومزلفا لديه ، برحمته .

                                                                                                                                            فنقول ، وبالله التوفيق . ( قال أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي ، رحمة الله عليه ) : قال القاضي الإمام أبو يعلى ، رحمه الله : كان الخرقي علامة ، بارعا في مذهب أبي عبد الله ، وكان ذا دين ، وأخا ورع . وقال القاضي أبو الحسين : كانت له المصنفات الكثيرة في المذهب ، ولم ينشر منها إلا " المختصر " في الفقه ; لأنه خرج من مدينة السلام لما ظهر سب الصحابة بها ، وأودع كتبه في درب سليمان ، فاحترقت الدار والكتب فيها . قرأ العلم على من قرأه على أبي بكر المروذي ، وحرب الكرماني ، وصالح وعبد الله ابني أحمد . وروى عن أبيه أبي علي الحسين بن عبد الله ، وكان أبو علي فقيها صحب أصحاب أحمد ، وأكثر صحبته لأبي بكر المروذي . وقرأ على أبي القاسم الخرقي جماعة من شيوخ المذهب ; منهم أبو عبد الله بن بطة ، وأبو الحسن التميمي ، وأبو الحسين بن سمعون . وقال أبو عبد الله بن بطة : توفي أبو القاسم الخرقي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، ودفن بدمشق ، وزرت قبره . وسمعت من يذكر أن سبب موته أنه أنكر منكرا بدمشق ، فضرب ، فكان موته بذلك قال ، رحمه الله : ( اختصرت هذا الكتاب ) . يعني قربته ، وقللت ألفاظه ، وأوجزته ، والاختصار : هو تقليل الشيء ، وقد يكون اختصار الكتاب بتقليل مسائله ، وقد يكون بتقليل ألفاظه مع تأدية المعنى ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : { أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا } ، ومن ذلك مختصرات الطريق ، وفي الحديث : { الجهاد مختصر طريق الجنة } ، وقد نهى عن اختصار السجود ، ومعناه جمع آي السجدات فيقرؤها في وقت واحد .

                                                                                                                                            وقيل : هو أن يحذف الآية التي فيها السجدة ولا يقرؤها . وفائدة الاختصار التقريب والتسهيل على من أراد تعلمه وحفظه ، فإن الكلام يختصر ليحفظ ، ويطول ليفهم . وقد ذكر ، رحمه الله مقصوده بالاختصار ، فقال : ( ليقرب على متعلمه ) ، أي يسهل عليه ، ويقل تعبه في تعلمه .

                                                                                                                                            وقوله : ( على مذهب أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ، رضي الله عنه وأرضاه ) فهو الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، يلتقي نسبه ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في نزار ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد مضر بن نزار ، وأحمد من ولد ربيعة بن نزار . قال عبد الله بن أحمد : قال أبي : ولدت سنة أربع وستين ومائة . وقال عبد الله : ومات في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائتين ، وله سبع وسبعون سنة . حملت به أمه بمرو ، وولدته ببغداد ، ونشأ بها ، وسافر في طلب العلم أسفارا كثيرة ، ثم رجع إلى بغداد ، وتوفي بها ، بعد أن ساد أهل عصره ، ونصر الله به دينه . قال أبو عبيد القاسم بن سلام : ليس في شرق ولا غرب مثل أحمد بن حنبل ، ما رأيت رجلا أعلم بالسنة منه . وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، رحمة الله ورضوانه عليه : أحمد بن حنبل إمام في ثمان خصال ; إمام في الحديث ، إمام في الفقه ، إمام في القرآن ، إمام في اللغة ، إمام في الفقر ، إمام في الزهد ، إمام في الورع ، إمام في السنة . وقال عبد الرحمن بن مهدي فيه ، وهو صغير : لقد كاد هذا الغلام أن يكون إماما في بطن أمه . وقال أبو عمير بن النحاس الرملي ، وذكر أحمد بن حنبل : رحمه الله ، ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه ، وبالصالحين ما كان ألحقه ، عرضت له الدنيا فأباها ، والبدع فنفاها ، واختصه الله سبحانه بنصر دينه ، والقيام بحفظ سنته ، ورضيه لإقامة حجته ، ونصر كلامه حين عجز عنه الناس . قيل لبشر بن الحارث ، حين ضرب أحمد : يا أبا نصر ، لو أنك خرجت فقلت : إني على قول أحمد بن حنبل ؟ فقال بشر : أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء ؟ إن أحمد بن حنبل قد قام مقام الأنبياء . وقال علي بن شعيب الوسي : كان أحمد بن حنبل عندنا المثل الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم : { إنه كائن في أمتي ما كان في بني إسرائيل ، حتى إن المنشار ليوضع على مفرق رأس أحدهم ما يصرفه ذلك عن دينه } ، ولولا أن أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل قام بهذا الشأن لكان عارا وشنارا علينا إلى يوم القيامة ، أن قوما سئلوا فلم يخرج منهم أحد . وفضائله ، وما قاله الأئمة في مدحه كثير ، وليس هذا موضع استقصائه ، وقد صنف فيه غير واحد من الأئمة كتبا مفردة ، وإنما غرضنا هاهنا الإشارة إلى نكتة من فضله ، وذكر نسبه ، ومولده ، ومبلغ عمره ، إذ لا يحسن من متمسك بمذهبه ، ومتفقه على طريقته ، أن يجهل هذا القدر من إمامه .

                                                                                                                                            ونسأل الله الكريم أن يجمع بيننا وبينه في دار كرامته ، والدرجات العلى من جنته ، وأن يجعل عملنا صالحا ، ويجعله لوجهه خالصا ، ويجعل سعينا مقربا إليه ، مبلغا إلى رضوانه ، إنه جواد كريم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية