الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        البحث الثاني : عن الواضع

                        اختلف في ذلك على أقوال :

                        الأول : أن الواضع هو الله سبحانه ، وإليه ذهب [ ص: 70 ] الأشعري وأتباعه وابن فورك .

                        القول الثاني : أن الواضع هو البشر ، وإليه ذهب أبو هاشم ومن تابعه من المعتزلة .

                        القول الثالث : أن ابتداء اللغة وقع بالتعليم من الله سبحانه ، والباقي بالاصطلاح .

                        القول الرابع : أن ابتداء اللغة وقع بالاصطلاح والباقي توقيف ، وبه قال الأستاذ أبو إسحاق ، وقيل : إنه قال بالذي قبله .

                        والقول الخامس : أن نفس الألفاظ دلت على معانيها بذاتها ، وبه قال عباد بن سليمان الصيمري .

                        القول السادس : أنه يجوز كل واحد من هذه الأقوال من غير جزم بأحدها ، وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب المحصول .

                        احتج أهل القول الأول بالمنقول والمعقول ، أما المنقول فمن ثلاثة أوجه :

                        الأول : قوله سبحانه : وعلم آدم الأسماء كلها [ ص: 71 ] دل هذا على أن الأسماء توقيفية ، وإذا ثبت ذلك في الأسماء ، ثبت أيضا في الأفعال والحروف ، إذ لا قائل بالفرق .

                        وأيضا : الاسم إنما سمي اسما ; لكونه علامة على مسماه ، والأفعال والحروف كذلك ، وتخصيص الاسم ببعض أنواع الكلام اصطلاح للنحاة .

                        الوجه الثاني : أن الله سبحانه ذم قوما على تسميتهم بعض الأشياء دون توقيف ، بقوله إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صح هذا الذم .

                        الوجه الثالث : قوله سبحانه : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم .

                        والمراد اختلاف اللغات ، لا اختلافات تأليفات الألسن .

                        وأما المعقول فمن وجهين :

                        الأول : أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره ، وذلك لا يعرف إلا بطريق ، كالألفاظ ، والكتابة ، وكيفما كان فإن ذلك الطريق إما الاصطلاح ، ويلزم التسلسل أو التوقيف وهو المطلوب .

                        الوجه الثاني : أنها لو كانت بالمواضعة لجوز العقل اختلافها ، وأنها على غير ما كانت عليه ; لأن اللغات قد تبدلت ، وحينئذ لا يوثق بها .

                        وأجيب عن الاستدلال بقوله وعلم آدم الأسماء بأن المراد بالتعليم الإلهام ، كما في قوله وعلمناه صنعة لبوس لكم أو تعليم ما سبق وضعه من خلق آخر ، أو المراد بالأسماء المسميات ، بدليل قوله ثم عرضهم .

                        ويجاب عن الاستدلال بقوله إن هي إلا أسماء سميتموها بأن المراد ما اخترعوه من الأسماء للأصنام ، من البحيرة والسائبة ، والوصيلة ، والحام .

                        [ ص: 72 ] ووجه الذم مخالفة ذلك لما شرعه الله .

                        وأجيب عن الاستدلال بقوله واختلاف ألسنتكم بأن المراد : التوقيف عليها بعد الوضع ، وإقرار الخلق على وضعها .

                        ويجاب على الوجه الأول من المعقول بمنع لزوم التسلسل ; لأن المراد وضع الواضع هذا الاسم لهذا المسمى ، ثم تعريف غيره بأنه وضعه كذلك .

                        ويجاب عن الوجه الثاني : بأن تجويز الاختلاف خلاف الظاهر .

                        ومما يدفع هذا القول : أن حصول اللغات لو كان بالتوقيف من الله عز وجل ، لكان ذلك بإرسال رسول لتعليم الناس لغتهم ; لأنه الطريق المعتاد في التعليم للعباد ، ولم يثبت ذلك .

                        ويمكن أن يقال : إن آدم عليه السلام علمها ، وعلمها غيره .

                        وأيضا يمكن أن يقال : إن التعليم لا ينحصر في الإرسال ، لجواز حصوله بالإلهام ، وفيه أن مجرد الإلهام لا يوجب كون اللغة توقيفية ، بل هي من وضع الناس بإلهام الله سبحانه لهم ، كسائر الصنائع .

                        احتج أهل القول الثاني بالمنقول والمعقول .

                        أما المنقول : فقوله سبحانه وتعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه أي بلغتهم ، فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسل ، فلو كانت اللغة توقيفية لم يتصور ذلك إلا بالإرسال فيلزم الدور ; لأن الآية تدل على سبق اللغات للإرسال ، والتوقيف يدل على سبق الإرسال لها .

                        وأجيب : بأن كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال إنما يوجب سبق الإرسال على التوقيف ، لا سبق الإرسال على اللغات حتى يلزم الدور ; لأن الإرسال لتعليمها إنما يكون بعد وجودها معلومة للرسول عادة ، لترتب فائدة الإرسال عليه .

                        وأجيب أيضا بأن آدم عليه السلام علمها كما دلت عليه الآية وإذا كان هو الذي علمها لأقدم رسول اندفع الدور .

                        [ ص: 73 ] وأما المعقول : فهو أنها لو كانت توقيفية لكان إما أن يقال إنه تعالى يخلق العلم الضروري ، بأن وضعها لتلك المعاني ، أو لا يكون كذلك . والأول لا يخلو ، إما أن يقال خلق ذلك العلم في عاقل أو في غير عاقل ، وباطل أن يخلقه في عاقل ; لأن العلم بأنه سبحانه وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به سبحانه ، فلو كان ذلك العلم ضروريا لكان العلم به سبحانه ضروريا ، ولو كان العلم بذاته سبحانه ضروريا لبطل التكليف ، لكن ذلك باطل لما ثبت أن كل عاقل يجب أن يكون مكلفا ، وباطل أن يخلقه في غير العاقل ; لأن من البعيد أن يصير الإنسان الغير العاقل عالما بهذه اللغات العجيبة ، والتركيبات اللطيفة .

                        احتج أهل القول الثالث : بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره ، فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي لزم التسلسل ، فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف ، ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح ، بل ذلك معلوم بالضرورة ، فإن الناس يحدثون في كل زمان ألفاظا ما كانوا يعلمونها قبل ذلك .

                        وأجيب بمنع توقفه على الاصطلاح ، بل يعرف ذلك بالترديد والقرائن ، كالأطفال .

                        وأما أهل القول الرابع : فلعلهم يحتجون على ذلك : بأن فهم ما جاء توقيفا ، لا يكون إلا بعد تقدم الاصطلاح والمواضعة .

                        ويجاب عنه : بأن التعليم بواسطة رسول ، أو بإلهام يغني عن ذلك .

                        واحتج أهل القول الخامس : بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين للمسمى المعين ترجيحا بدون مرجح ، وإن كان بينهما مناسبة ثبت المطلوب .

                        وأجيب : بأنه إن كان الواضع هو الله سبحانه ، كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ، كتخصيص وجود العالم بوقت معين دون ما قبله أو بعده .

                        وأيضا : لو سلمنا أنه لا بد من المناسبة المذكورة بين الاسم والمسمى ، كان ذلك ثابتا في وضعه سبحانه ، وإن خفي علينا .

                        وإن كان الواضع البشر ، فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما يخطر ببال الواحد منا أن يسمي ولده باسم خاص .

                        [ ص: 74 ] واحتج أهل القول السادس على ما ذهبوا إليه من الوقف بأن هذه الأدلة التي استدل بها القائلون لا يفيد شيء منها القطع ، بل لم ينهض شيء منها لمطلق الدلالة ، فوجب عند ذلك الوقف ; لأن ما عداه هو من التقول على الله بما لم يقل ، وأنه باطل وهذا هو الحق .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية