الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب القصاص بين الرجال والنساء

قال الله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى وقال : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فظاهر ما ذكر من ظواهر الآي الموجبة للقصاص في الأنفس بين العبيد والأحرار موجب للقصاص بين الرجال والنساء فيها .

وقد اختلف الفقهاء في ذلك ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ، وابن شبرمة : " لا قصاص بين الرجال والنساء إلا في الأنفس " وروي عن ابن شبرمة رواية أخرى : أن بينهم قصاصا فيما دون النفس .

وقال ابن أبي ليلى ومالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي : " القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في الأنفس وما دونها " إلا أن الليث قال : " إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولم يقتص منه " .

وقال عثمان البتي : " إذا قتلت امرأة رجلا قتلت به ، وأخذ من مالها نصف الدية ، وكذلك إن أصابته بجراحة " قال : " وإن كان هو الذي قتلها أو جرحها فعليه القود ، ولا يرد عليه شيء " . وقد روي عن السلف اختلاف في ذلك ، فروى قتادة عن سعيد بن المسيب : " أن عمر قتل نفرا من أهل صنعاء بامرأة أقادهم بها " . وروي عن عطاء والشعبي ومحمد بن سيرين : أنه يقتل بها . واختلف عن علي عليه السلام فيها ، فروى ليث عن الحكم عن علي وعبد الله [ ص: 172 ] قالا : " إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود " . وروي عن عطاء ، والشعبي ، والحسن البصري أن عليا قال : " إن شاءوا قتلوه ، وأدوا نصف الدية ، وإن شاءوا أخذوا نصف دية الرجل " .

وروى أشعث عن الحسن في امرأة قتلت رجلا عمدا قال : " تقتل ، وترد نصف الدية " .

قال أبو بكر : ما روي عن علي من القولين في ذلك مرسل ؛ لأن أحدا من رواته لم يسمع من علي شيئا ، ولو ثبتت الروايتان كان سبيلهما أن تتعارضا ، وتسقطا فكأنه لم يرو عنه في ذلك شيء .

وعلى أن رواية الحكم في إيجاب القود دون المال أولى لموافقتها لظاهر الكتاب ، وهو قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى وسائر الآي الموجبة للقود ليس في شيء منها ذكر الدية ، وهو غير جائز أن يزيد في النص إلا بنص مثله ؛ لأن الزيادة في النص توجب النسخ .

حدثنا ابن قانع قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال : حدثنا حميد عن أنس بن مالك : أن الربيع بنت النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرض عليهم الأرش فأبوا ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله تكسر سن الربيع ؟ لا ، والذي بعثك بالحق فقال : يا أنس كتاب الله القصاص فعفا القوم ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذي في كتاب الله القصاص دون المال فلا جائز إثبات المال مع القصاص .

ومن جهة أخرى أنه إذا لم يجب القصاص بنفس القتل فغير جائز إيجابه مع إعطاء المال ؛ لأن المال حينئذ يصير بدلا من النفس ، وغير جائز قتل النفس بالمال ، ألا ترى أن من رضي أن يقتل ، ويعطى مالا يكون لوارثه لم يصح ذلك ، ولم يجز أن يستحق النفس بالمال ؟ فبطل أن يكون القصاص موقوفا على إعطاء المال . وأما مذهب الحسن ، وقول عثمان البتي في أن المرأة إذا كانت القاتلة قتلت ، وأخذ من مالها نصف الدية ، فقول يرده ظاهر الآي الموجبة للقصاص ، ويوجب زيادة حكم غير مذكور فيها .

وقد روى قتادة عن أنس : أن يهوديا قتل جارية ، وعليها أوضاح لها ، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقتله بها .

وروى الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل يقتل بالمرأة . وأيضا قد ثبت عن عمر بن الخطاب قتل جماعة رجال بالمرأة الواحدة من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائه مع استفاضة ذلك ، وشهرته عنه ، ومثله يكون إجماعا .

ومما يدل على قتل الرجل بها من غير بدل مال ، ما قدمنا من سقوط اعتبار ، [ ص: 173 ] المساواة بين الصحيحة ، والسقيمة ، وقتل العاقل بالمجنون ، والرجل بالصبي ، وهذا يدل على سقوط اعتبار المساواة في النفوس ، وأما دون النفس فإن اعتبار المساواة ، واجب فيه ، والدليل عليه اتفاق الجميع على امتناع أخذ اليد الصحيحة بالشلاء .

وكذلك لم يوجب أصحابنا القصاص بين الرجال ، والنساء فيما دون النفس ، وكذلك بين العبيد ، والأحرار ؛ لأن ما دون النفس من أعضائها غير متساوية .

فإن قال قائل : هلا قطعت يد العبد ، ويد المرأة بيد الرجل كما قطعت اليد الشلاء بالصحيحة قيل له : إنما سقط القصاص في هذا الموضع لاختلاف أحكامها لا من جهة النقص ، فصار كاليسرى لا تؤخذ باليمنى ، وأوجب أصحابنا القصاص بين النساء فيما دون النفس لتساوي أعضائهما من غير اختلاف في أحكامهما ، ولم يوجبوا القصاص فيما بين العبيد فيما دون النفس ؛ لأن تساويهما إنما يعلم من طريق التقويم ، وغالب الظن .

كما لا تقطع اليد من نصف الساعد ؛ لأن الوصول إلى علمه من طريق الاجتهاد . وعندهم أن أعضاء العبد حكمها حكم الأموال في جميع الوجوه ، فلا يلزم العاقلة منها شيء ، وإنما يلزم الجاني في ماله ، وليس كذلك النفس ؛ لأنها تلزم العاقلة في الخطأ ، وتجب فيها الكفارة ففارق الجنايات على الأموال ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية