الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن طلب ولم يجد جاز له التيمم لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وهل الأفضل أن يقدم التيمم أو الصلاة أم لا ؟ ينظر فإن كان على ثقة من وجود الماء في آخر الوقت فالأفضل أن يؤخر التيمم فإن الصلاة في أول الوقت فضيلة ، والطهارة بالماء فريضة فكان انتظار الفريضة أولى ، وإن كان على إياس من وجوده فالأفضل أن يتيمم ويصلي لأن الظاهر أنه لا يجد الماء ، فلا يضيع فضيلة أول الوقت لأمر لا يرجوه وإن كان يشك في وجوده ففيه قولان أحدهما : أن تأخيرها أفضل لأن الطهارة بالماء فريضة والصلاة في أول الوقت فضيلة فكان تقديم الفريضة أولى . والثاني : أن تقديم الصلاة بالتيمم أفضل وهو الأصح لأن فعلها في أول الوقت فضيلة متيقنة والطهارة بالماء مشكوك فيها فكان تقديم الفضيلة المتيقنة أولى ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا عدم الماء بعد طلبه المعتبر جاز له التيمم للآية والأحاديث الصحيحة والإجماع ، ولا فرق في الجواز بين أن يتيقن وجود الماء في آخر الوقت أو لا يتيقنه . هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة . ونقل المحاملي في [ ص: 301 ] المجموع الإجماع عليه ، وكذا نقل الشيخ أبو حامد وغيره : أنه لا خلاف فيه ، وحكى صاحبا التتمة والتهذيب قولا للشافعي نص عليه في الإملاء : أنه لا يجوز التيمم إذا علم وصوله إلى الماء قبل خروج الوقت ، وهو شاذ ضعيف لا تفريع عليه ، وإنما التفريع على المذهب وهو الجواز ، ثم إن الجمهور أطلقوا الجواز ، وقال الماوردي : هذا إذا تيقن وجود الماء في غير منزله ، أما إذا تيقن أنه يجده في آخر الوقت في منزله الذي هو فيه أول الوقت فيجب التأخير ، قال : ولا وجه لقول من أطلق من أصحابنا استحباب التأخير ، فإذا قلنا بالمذهب فللعادم ثلاثة أحوال .

                                      ( أحدها ) : أن يتيقن وجود الماء في آخر الوقت ، بحيث يمكنه الطهارة والصلاة في الوقت ، فالأفضل أن يؤخر الصلاة ليأتي بها بالوضوء ; لأنه الأصل والأكمل ، هذا هو المذهب الصحيح المقطوع به في جميع الطرق .

                                      وانفرد صاحب التتمة بحكاية وجه أن تقديم الصلاة في أول الوقت بالتيمم أفضل ، وحكاه الشيخ أبو محمد ، والصواب الأول .

                                      واحتج له الشيخ أبو حامد الإسفراييني والمحاملي وغيرهما بأن الوضوء أكمل من التيمم ، فكان راجحا على فضيلة أول الوقت ، ويؤيد هذا أن التيمم لا يجوز مع القدرة على الماء ، ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت مع القدرة على الصلاة في أوله ; ولأن الوضوء هو الأصل ولهذا يصلى به صلوات . وأما تعليل المصنف بأن الوضوء فريضة فمشكل ; لأن التيمم إذا فعله وقع أيضا فريضة فالصحيح ما سبق من التعليل ، ونضم إليه أن فيه خروجا من الخلاف فإن نصه في الإملاء : أن هذا التيمم باطل . وهو أيضا مذهب الزهري ، فإنه لا يجوز التيمم حتى يخاف فوت الوقت .

                                      ( الحال الثاني ) : أن يكون على يأس من وجود الماء في آخر الوقت ، فالأفضل تقديم التيمم والصلاة في أول الوقت بلا خلاف ; لحيازة فضيلة أول الوقت ، وليس هنا ما يعارضها .

                                      ( الحال الثالث ) : أن لا يتيقن وجود الماء ، ولا عدمه وله صورتان . [ ص: 302 ] إحداهما ) : أن يكون راجيا ظانا الوجود ففيه قولان مشهوران في كتب الأصحاب ، ونص عليهما في مختصر المزني أصحها - باتفاق الأصحاب - أن تقديم الصلاة بالتيمم في أول الوقت أفضل ، وهو نصه في الأم ( والثاني ) : التأخير أفضل وهو نصه في الإملاء ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وأكثر العلماء ، ودليلهما يعرف مما سبق .

                                      الصورة الثانية : أن يشك ، فلا يترجح الوجود على العدم ولا عكسه ، فطريقان ، قطع جمهور العراقيين بأنه على القولين ، كما في الرجاء والظن . ممن صرح بذلك المصنف هنا ، والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي وآخرون .

                                      والطريق الثاني : الجزم بأن التقديم أفضل صرح به القاضي حسين وصاحب العدة وغيرهما من الخراسانيين وأشار إليه البغوي وغيره .

                                      وعبارة إمام الحرمين والغزالي والمتولي وآخرين : إن كان يظن ، وبعضهم يقول : يرجو ، ففيه قولان ، ولم يتعرضوا للشك ، وأما الرافعي فجزم في صورة الشك بالتقديم قولا واحدا ، قال : وإنما القولان إذا كان يظن ، قال : وربما وقع في كلام بعضهم ذكر القولين فيما إذا لم يظن الوجود ولا العدم ولا وثوق به . ولعل ذاك القائل أراد بالظن اليقين ، وهذا الذي أنكره الرافعي من نقل القولين في حال الشك المستوي الطرفين مردود ، فقد صرح بالقولين في حالة الشك الشيخ أبو حامد والماوردي والمحاملي في التجريد ، فقالوا : لو كان لا يعلم وجود الماء في آخر الوقت ولا عدمه ، ولم يكن أحد الاحتمالين - في وجوده وعدمه - أقوى من الآخر ، ففيه القولان . هذا لفظ هؤلاء الثلاثة ، وهم شيوخ المذهب وصرح به غيرهم ، وهو مقتضى عبارة المصنف وآخرين في قولهم : وإن كان يشك ففيه قولان والله أعلم .

                                      قال إمام الحرمين وغيره : هذا الخلاف فيمن أراد أن يقتصر على صلاة واحدة ، فأما من تيمم وصلى في أول الوقت ثم صلى بالوضوء عند وجود الماء في آخره ، فهو النهاية في تحصيل الفضيلة والله أعلم .

                                      ( فرع ) اختلف كلام الأصحاب في تأخير الصلاة عن أول الوقت إلى أثنائه لانتظار الجماعة ، فقطع أبو القاسم الداركي ، وأبو علي الطبري ، [ ص: 303 ] وصاحب الحاوي وآخرون من كبار العراقيين باستحباب التأخير وتفضيله على فضيلة أول الوقت ، وقطع أكثر الخراسانيين بأن تقديم الصلاة منفردا أفضل ، ونقل إمام الحرمين والغزالي في البسيط أنه لا خلاف فيه ، ونقل جماعات من الأصحاب أنه إن رجا الجماعة في آخر الوقت ولم يتحققها ففي استحباب التأخير وجهان بناء على القولين في التيمم .

                                      وحكى صاحبا الشامل والبيان هذا عن الأصحاب مطلقا ، ونقل الروياني عن القاضي أبي علي البندنيجي أنه قال : قال الشافعي في الأم : التقديم أول الوقت منفردا أفضل ، وقال في الإملاء : التأخير للجماعة أفضل ، وقال القاضي أبو الطيب : حكم الجماعة حكم التيمم ، إن تيقن الجماعة آخر الوقت فالتأخير أفضل ، وإن تيقن عدمها فالتقديم أفضل ، وإن رجا الأمرين فعلى القولين . وهذا الذي حكاه عن القاضي أبي الطيب هو الذي ذكره أبو علي البندنيجي في جامعه ، كذا رأيته في نسخة معتمدة منه ، فهذا كلام الأصحاب في المسألة .

                                      وقد ثبت في صحيح مسلم : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيجيء أئمة يؤخرون الصلاة عن أول وقتها ، قال : فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة } فالذي نختاره أنه يفعل ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي مرتين مرة في أول الوقت منفردا لتحصيل فضيلة أول الوقت ، ومرة في آخره مع الجماعة لتحصيل فضيلتها ، وقد صرح أصحابنا باستحباب الصلاة مرتين على ما ذكرناه في باب صلاة الجماعة ، وسنبسطه هناك إن شاء الله تعالى ، فإن أراد الاقتصار على صلاة واحدة - فإن تيقن حصول الجماعة آخر الوقت - فالتأخير أفضل لتحصيل شعارها الظاهر ; ولأنها فرض كفاية على الصحيح في مذهبنا وفرض عين على وجه لنا ، وهو قول ابن خزيمة من أصحابنا ، وهو مذهب أحمد بن حنبل وطائفة ، ففي تحصيلها خروج من الخلاف ، ولم يقل أحد يأثم بتأخيرها ، ويحتمل أن يقال : إن فحش التأخير فالتقديم أفضل ، وإن خف فالانتظار أفضل والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال صاحب البيان : هذان القولان فيمن ظن وجود الماء في آخر الوقت يجريان في المريض العاجز عن القيام ، إذا رجا القدرة [ ص: 304 ] على القيام في آخر الوقت ، وفي العاري إذا رجا السترة في آخر الوقت . والمنفرد إذا رجا الجماعة في آخر الوقت هل الأفضل لهم تقديم الصلاة في أول الوقت على حالهم ؟ أم تأخيرها لما يرجونه ؟ قال : ولا يترك الترخص بالقصر في السفر ، وإن علم إقامته في آخر الوقت بلا خلاف ، وقال : قال صاحب الفروع : إن خاف فوت الجماعة لو أسبغ الوضوء وأكمله ، فإدراك الجماعة أولى من الانحباس على إكمال الوضوء وفي هذا نظر .



                                      ( فرع ) لو دخل المسجد والإمام في الصلاة وعلم أنه إن مشى إلى الصف الأول فاتته ركعة وإن صلى في أواخر الصفوف لم تفته - فهذا لم أر فيه لأصحابنا ولا لغيرهم شيئا - والظاهر أنه إن خاف فوت الركعة الأخيرة حافظ عليها ، وإن خاف فوت غيرها مشى إلى الصف الأول ، للأحاديث الصحيحة في الأمر بإتمام الصف الأول وفي فضله والازدحام عليه والاستهام ، وخير صفوف الرجال أولها والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية