الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : في تفسير المسميات فيها لغة : فالبحيرة ، هي : الناقة المشقوقة الأذن لغة ، يقال : بحرت أذن الناقة أي شققتها .

                                                                                                                                                                                                              والسائبة ، هي : المخلاة لا قيد عليها ولا راعي لها .

                                                                                                                                                                                                              والوصيلة في الغنم : كانت العرب إذا ولدت الشاة أنثى كانت لهم ، وإن ولدت [ ص: 217 ] ذكرا كانت لآلهتهم ، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فكان الكل للآلهة ، ولم يذبحوا الذكر .

                                                                                                                                                                                                              والحامي : كانت العرب إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : حمى ظهره فسيبوه لا يركب ولا يهاج .

                                                                                                                                                                                                              ولهذه الآية تفسير طويل باختلاف كثير يرجع إلى ما أوضحه مالك ومحمد بن إسحاق .

                                                                                                                                                                                                              قال ابن وهب : قال مالك : كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيبونها ، فأما الحامي فمن الإبل ; كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه .

                                                                                                                                                                                                              وأما الوصيلة فمن الغنم ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها .

                                                                                                                                                                                                              وروى ابن القاسم وغيره عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أول من نصب النصب ، وسيب السوائب ، وغير عهد إبراهيم عمرو بن لحي ; ولقد رأيته يجر قصبه في النار ، يؤذي أهل النار بريحه } .

                                                                                                                                                                                                              قال : وأول من بحر البحائر { رجل من بني مدلج عمد إلى ناقتين له ، فجدع آذانهما ، وحرم ألبانهما وظهورهما ، ثم احتاج إليهما ، فشرب ألبانهما ، وركب ظهورهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد رأيتهما في النار يخبطانه بأخفافهما ويعضانه بأفواههما } .

                                                                                                                                                                                                              ونحوه علي بن نافع عن مالك قال : " لقد رأيته يؤذي أهل النار بريحه " ولم يزد .

                                                                                                                                                                                                              وروى أشهب عن مالك : السوائب الغنم . وقال محمد بن إسحاق : البحيرة بنت السائبة . والسائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر لم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها ، وخلي سبيلها مع أمها ، فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، كما فعل بأمها ; فهي البحيرة بنت السائبة . [ ص: 218 ]

                                                                                                                                                                                                              والوصيلة : الشاة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر جعلت وصيلة ، قالوا : قد وصلت ، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم .

                                                                                                                                                                                                              وروي عن غير ابن إسحاق : فكان ما ولدت بعد ذلك لذكورهم دون إناثهم .

                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : والحامي الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمي ظهره ، فلم يركب ظهره ، ولم يجز وبره ، وخلي في إبله يضرب ، لا ينتفع منه بشيء بغير ذلك .

                                                                                                                                                                                                              وقال ابن عباس : البحيرة الناقة . والوصيلة الشاة . والحامي الفحل . وسائبة يقول يسيبونها لأصنامهم .

                                                                                                                                                                                                              وروي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار . قال : فسألته عمن بيني وبينه من الناس . قال : هلكوا } .

                                                                                                                                                                                                              وروي أن سبب نصب الأوثان وتغيير دين إبراهيم أنه خرج من مكة إلى الشام ، فلما قدم مأرب من أرض البلقاء ; وبها يومئذ العماليق أولاد عمليق ، ويقال عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح ، رآهم يعبدون الأصنام ، فقال لهم : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا : هذه أصنام نستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرنا فتنصرها . فقال لهم : أفلا تعطوني منها صنما أسير به إلى أرض العرب فيعبدوه ؟ فأعطوه صنما يقال له هبل . فقدم به مكة فنصبه ، وأخذ الناس بعبادته وتعظيمه ، فلما بعث الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق أنزل عليه : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } ; وذلك لأنهم كانوا بزعمهم يفعلون ذلك لرضا ربهم وفي طاعته ، وطاعة الله ورضاه إنما تعلم من قوله ، ولم يكن [ ص: 219 ] عندهم لله بذلك قول ، فكان ذلك مما يفترونه على الله ، وأنزل الله عليه : { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم } .

                                                                                                                                                                                                              وأنزل عليه : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون } .

                                                                                                                                                                                                              وأنزل عليه : { ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .

                                                                                                                                                                                                              وأنزل عليه : { وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : روى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون : { رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك . فقال أكثم : أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله . قال : لا ; لأنك مؤمن وهو كافر ; إنه أول من غير دين إسماعيل ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، وحمى الحامي } .

                                                                                                                                                                                                              وروى أبو الأحوص عون بن مالك بن نضلة الجشمي عن أبيه { أنه وفد على [ ص: 220 ] النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرب إبل أنت أم رب غنم ؟ فقال : من كل المال آتاني الله فأكثر وأطيب . فقال : هل تنتج إبلك صحاحا آذانها فتعمد إلى المواسي فتقطع آذانها ، فتقول : هذه بحر . وتشق جلودها ، فتقول : هذه صرم ، فتحرمها عليك وعلى أهلك ؟ قال : نعم . قال : فإن الله تعالى قد أحل لك ما آتاك ، وموسى الله أحد ، وساعد الله أشد } .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية