الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب الإبراد بالظهر في شدة الحر

                                                                                                                                                                                                        510 حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال قال حدثنا أبو بكر عن سليمان قال صالح بن كيسان حدثنا الأعرج عبد الرحمن وغيره عن أبي هريرة ونافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر أنهما حدثاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( باب الإبراد بالظهر في شدة الحر ) قدم المصنف باب الإبراد على باب وقت الظهر ؛ لأن لفظ الإبراد يستلزم أن يكون بعد الزوال لا قبله ، إذ وقت الإبراد هو ما إذا انحطت قوة الوهج من حر الظهيرة ، فكأنه أشار إلى أول وقت الظهر . أو أشار إلى حديث جابر بن سمرة قال " كان بلال يؤذن الظهر إذا دحضت الشمس " أي مالت .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حدثنا أيوب ) هو ابن سليمان بن بلال كما في رواية أبي ذر ، وأبو بكر هو ابن أبي أويس وهو من أقران أيوب وسليمان هو ابن بلال والد أيوب ، روى أيوب عنه تارة بواسطة وتارة بلا واسطة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حدثنا الأعرج عبد الرحمن وغيره ) هو أبو سلمة بن عبد الرحمن فيما أظن وقد رواه أبو نعيم في المستخرج من وجه آخر عن أيوب بن سليمان فلم يقل فيه " وغيره " . والإسناد كله مدنيون .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ونافع ) هو بالرفع عطفا على الأعرج وهو من رواية صالح بن كيسان عن نافع ، وقد روى ابن ماجه من طريق عبد الرحمن الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بعضه " أبردوا بالظهر " وروى السراج من هذا الوجه بعضه " شدة الحر من فيح جهنم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أنهما ) أي أبا هريرة وابن عمر حدثاه ) أي حدثا من حدث صالح بن كيسان ، ويحتمل أن يكون ضمير أنهما يعود على الأعرج ونافع ، أي أن الأعرج ونافعا حدثاه أي صالح بن كيسان عن شيخيهما بذلك . ووقع في رواية الإسماعيلي " أنهما حدثا " بغير ضمير فلا يحتاج إلى التقدير المذكور .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( إذا اشتد ) أصله اشتدد بوزن افتعل من الشدة ثم أدغمت إحدى الدالين في الأخرى ، ومفهومه أن الحر إذا لم يشتد لم يشرع الإبراد ، وكذا لا يشرع في البرد من باب الأولى .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 21 ] قوله ( فأبردوا ) بقطع الهمزة وكسر الراء ، أي أخروا إلى أن يبرد الوقت . يقال أبرد إذا دخل في البرد كأظهر إذا دخل في الظهيرة ، ومثله في المكان أنجد إذا دخل نجدا ، وأتهم إذا دخل تهامة . والأمر بالإبراد أمر استحباب ، وقيل أمر إرشاد ، وقيل بل هو للوجوب .

                                                                                                                                                                                                        حكاه عياض وغيره وغفل الكرماني فنقل الإجماع على عدم الوجوب ، نعم قال جمهور أهل العلم يستحب تأخير الظهر في شدة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج ، وخصه بعضهم بالجماعة ، فأما المنفرد فالتعجيل في حقه أفضل ، وهذا قول أكثر المالكية والشافعي أيضا لكن خصه بالبلد الحار وقيد الجماعة بما إذا كانوا ينتابون مسجدا من بعد ، فلو كانوا مجتمعين أو كانوا يمشون في كن فالأفضل في حقهم التعجيل ، والمشهور عن أحمد التسوية من غير تخصيص ولا قيد ، وهو قول إسحاق والكوفيين وابن المنذر واستدل له الترمذي بحديث أبي ذر الآتي بعد هذا ؛ لأن في روايته أنهم كانوا في سفر ، وهي رواية للمصنف أيضا ستأتي قريبا ، قال : فلو كان على ما ذهب إليه الشافعي لم يأمر بالإبراد لاجتماعهم في السفر وكانوا لا يحتاجون إلى أن ينتابوا من البعد .

                                                                                                                                                                                                        قال الترمذي والأول أولى للاتباع . وتعقبه الكرماني بأن العادة في العسكر الكثير تفرقتهم في أطراف المنزل للتخفيف وطلب الرعي فلا نسلم اجتماعهم في تلك الحالة . انتهى . وأيضا فلم تجر عادتهم باتخاذ خباء كبير يجمعهم ، بل كانوا يتفرقون في ظلال الشجر ، وليس هناك كن يمشون فيه ، فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشافعي ، وغايته أنه استنبط من النص العام - وهو الأمر بالإبراد - معنى يخصصه ، وذلك جائز على الأصح في الأصول ، لكنه مبني على أن العلة في ذلك تأذيهم بالحر في طريقهم وللمتمسك بعمومه أن يقول : العلة فيه تأذيهم بحر الرمضاء في جباههم حالة السجود ، ويؤيده حديث أنس " كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر " رواه أبو عوانة في صحيحه بهذا اللفظ وأصله في مسلم ، وفي حديث أنس أيضا في الصحيحين نحوه وسيأتي قريبا . والجواب عن ذلك أن العلة الأولى أظهر ، فإن الإبراد لا يزيل الحر عن الأرض ، وذهب بعضهم إلى أن تعجيل الظهر أفضل مطلقا . وقالوا : معنى أبردوا صلوا في أول الوقت أخذا من برد النهار وهو أوله ، وهو تأويل بعيد ، ويرده قوله " فإن شدة الحر من فيح جهنم " إذ التعليل بذلك يدل على أن المطلوب التأخير ، وحديث أبي ذر الآتي صريح في ذلك حيث قال " انتظر انتظر " والحامل لهم على ذلك حديث خباب شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا أي فلم يزل شكوانا ، وهو حديث صحيح رواه مسلم .

                                                                                                                                                                                                        وتمسكوا أيضا بالأحاديث الدالة على فضيلة أول الوقت ، وبأن الصلاة حينئذ أكثر مشقة فتكون أفضل والجواب عن حديث خباب أنه محمول على أنهم طلبوا تأخيرا زائدا عن وقت الإبراد وهو زوال حر الرمضاء ، وذلك قد يستلزم خروج الوقت ، فلذلك لم يجبهم ، أو هو منسوخ بأحاديث الإبراد فإنها متأخرة عنه واستدل له الطحاوي بحديث المغيرة بن شعبة قال كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالهاجرة ، ثم قال لنا أبردوا بالصلاة الحديث ، وهو حديث رجاله ثقات رواه أحمد وابن ماجه وصححه ابن حبان . ونقل الخلال عن أحمد أنه قال : هذا آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وجمع بعضهم بين الحديثين بأن الإبراد رخصة والتعجيل أفضل ، وهو قول من قال إنه أمر إرشاد ، وعكسه بعضهم فقال : الإبراد أفضل . وحديث خباب يدل على الجواز وهو الصارف للأمر عن الوجوب . كذا قيل وفيه نظر ؛ لأن ظاهره المنع [ ص: 22 ] من التأخير . وقيل معنى قول خباب " فلم يشكنا " أي فلم يحوجنا إلى شكوى بل أذن لنا في الإبراد ، حكي عن ثعلب ، ويرده أن في الخبر زيادة رواها ابن المنذر بعد قوله " فلم يشكنا " وقال " إذا زالت الشمس فصلوا " وأحسن الأجوبة كما قال المازري الأول ، والجواب عن أحاديث أول الوقت أنها عامة أو مطلقة والأمر بالإبراد خاص فهو مقدم ، ولا التفات إلى من قال التعجيل أكثر مشقة فيكون أفضل ؛ لأن الأفضلية لم تنحصر في الأشق ، بل قد يكون الأخف أفضل كما في قصر الصلاة في السفر .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( بالصلاة ) كذا للأكثر ، والباء للتعدية وقيل زائدة . ومعنى أبردوا أخروا على سبيل التضمين أي أخروا الصلاة . وفي رواية الكشميهني " عن الصلاة " فقيل زائدة أيضا أو عن بمعنى الباء ، أو هي للمجاوزة أي تجاوزوا وقتها المعتاد إلى أن تنكسر شدة الحر ، والمراد بالصلاة الظهر ؛ لأنها الصلاة التي يشتد الحر غالبا في أول وقتها ، وقد جاء صريحا في حديث أبي سعيد كما سيأتي آخر الباب ، فلهذا حمل المصنف في الترجمة المطلق على المقيد والله أعلم . وقد حمل بعضهم الصلاة على عمومها بناء على أن المفرد المعرف يعم ، فقال به أشهب في العصر ، وقال به أحمد في رواية عنه في الشتاء حيث قال : تؤخر في الصيف دون الشتاء ، ولم يقل أحد به في المغرب ولا في الصبح لضيق وقتهما .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فإن شدة الحر ) تعليل لمشروعية التأخير المذكور ، وهل الحكمة فيه دفع المشقة لكونها قد تسلب الخشوع ؟ وهذا أظهر ، أو كونها الحالة التي ينتشر فيها العذاب ؟ ويؤيده حديث عمرو بن عبسة عند مسلم حيث قال له أقصر عن الصلاة عند استواء الشمس فإنها ساعة تسجر فيها جهنم وقد استشكل هذا بأن الصلاة سبب الرحمة ففعلها مظنة لطرد العذاب . فكيف أمر بتركها ؟ وأجاب عنه أبو الفتح اليعمري بأن التعليل إذا جاء من جهة الشارع وجب قبوله وإن لم يفهم معناه واستنبط له الزين بن المنير معنى يناسبه فقال : وقت ظهور أثر الغضب لا ينجع فيه الطلب إلا ممن أذن له فيه والصلاة لا تنفك عن كونها طلبا ودعاء فناسب الاقتصار عنها حينئذ . واستدل بحديث الشفاعة حيث اعتذر الأنبياء كلهم للأمم بأن الله تعالى غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله سوى نبينا - صلى الله عليه وسلم - فلم يعتذر بل طلب لكونه أذن له في ذلك .

                                                                                                                                                                                                        ويمكن أن يقال : سجر جهنم سبب فيحها وفيحها سبب وجود شدة الحر وهو مظنة المشقة التي هي مظنة سلب الخشوع فناسب أن لا يصلى فيها . لكن يرد عليه أن سجرها مستمر في جميع السنة والإبراد مختص بشدة الحر فهما متغايران ، فحكمة الإبراد دفع المشقة ، وحكمة الترك وقت سجرها لكونه وقت ظهور أثر الغضب والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( من فيح جهنم ) أي من سعة انتشارها وتنفسها ، ومنه مكان أفيح أي متسع ، وهذا كناية عن شدة استعارها ، وظاهره أن مثار وهج الحر في الأرض من فيح جهنم حقيقة ، وقيل هو من مجاز التشبيه ، أي كأنه نار جهنم في الحر ، والأول أولى . ويؤيده الحديث الآتي : اشتكت النار إلى ربها فأذن لها بنفسين وسيأتي البحث فيه .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية