الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              4723 9 - باب في الرد على الجهمية

                                                              571 \ 4558 - وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، قال : كنت في البطحاء في عصابة، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت بهم سحابة فنظر إليها ، فقال : ما تسمون هذه ؟ قالوا : السحاب، قال : والمزن، قالوا : والمزن ، قال : والعنان ، قالوا : والعنان ، قال أبو داود : لم أتقن العنان جيدا ، قال صلى الله عليه وسلم : هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض ؟ قالوا : لا ندري ، قال : إن بعد ما بينهما إما واحدة ، أو ثنتان ، أو ثلاث وسبعون سنة ، ثم السماء فوقها كذلك - حتى عد سبع سماوات - ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم على ظهورهم العرش، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك .

                                                              وأخرجه ابن ماجه والترمذي، وقال: حسن غريب، وروى شريك بعض [ ص: 223 ] هذا الحديث عن سماك فوقفه.

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله : قد رد هذا الحديث بشيئين:

                                                              أحدهما : بأن فيه الوليد بن أبي ثور، ولا يحتج به.

                                                              والثاني : بما رواه الترمذي من حديث قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة قال: بينما نبي الله جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل تدرون ما هذا ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا العنان، هذه روايا الأرض، يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه، ولا يدعونه، ثم قال: هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: إنها الرقيع: سقف محفوظ، وموج مكفوف.

                                                              ثم قال: هل تدرون كم بينكم وبينها ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: بينكم وبينها [مسيرة] خمسمائة سنة، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.

                                                              قال : فإن فوق ذلك سماءين ما بينهما خمسمائة سنة، حتى عد سبع سماوات، ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين، ثم قال : هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، [ ص: 224 ] قال فإنها الأرض.

                                                              ثم قال: هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال : فإن تحتها أرضا أخرى، بينهما مسيرة خمسمائة سنة، حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله، ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم
                                                              .

                                                              قالوا: هذا خلاف حديث العباس في موضعين: في ذكر بعد المسافة بين السماوات وفي نفي اختصاص الرب بالفوقية.

                                                              قال المثبتون: أما رد الحديث الأول بالوليد بن أبي ثور: ففاسد، فإن الوليد لم ينفرد به بل تابعه عليه إبراهيم بن طهمان، كلاهما، عن سماك، ومن طريقه: رواه أبو داود.

                                                              ورواه أيضا عمرو بن أبي قيس، عن سماك، ومن حديثه رواه الترمذي، عن عبد بن حميد: حدثنا عبد الرحمن بن سعد، عن عمرو بن قيس، قال الترمذي: قال عبد بن حميد: سمعت يحيى بن معين يقول: ألا يريد عبد الرحمن بن سعد أن يحج حتى نسمع منه هذا الحديث؟.

                                                              ورواه الوليد بن أبي ثور، عن سماك، ومن حديثه رواه ابن ماجه في سننه، فأي ذنب للوليد في هذا؟ وأي تعلق عليه؟ وإنما ذنبه روايته ما [ ص: 225 ] يخالف قول الجهمية، وهي علته المؤثرة عند القوم!.

                                                              وأما معارضته بحديث الحسن، عن أبي هريرة ففاسدة أيضا، فإن الترمذي ضعف حديث الحسن هذا، وقال فيه: "غريب" فقط، قال: ويروى، عن أيوب، ويونس بن عبيد، وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة.

                                                              قال الترمذي: ففسر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقالوا: إنما معناه: هبط على علم الله وقدرته وسلطانه، [وعلم الله] وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه.

                                                              وهذا التفسير الذي ذكره الترمذي يشبه التفسير الذي حكاه البيهقي، عن أبي حنيفة رحمه الله في قوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم ، فإنه قال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أخبرنا أبو محمد بن حيان، أخبرنا أحمد بن جعفر بن نصر، حدثنا يحيى بن يعلى قال: سمعت [ ص: 226 ] نعيم بن حماد يقول: سمعت نوح بن أبي مريم يقول : "كنا عند أبي حنيفة، أول ما ظهر، إذ جاءته امرأة من ترمذ، كانت تجالس جهما، فدخلت الكوفة - فأظنني أول ما رأيت عليها عشرة الآلاف من الناس - تدعو إلى رأيها، فقيل لها: إن ها هنا رجلا نظر في المعقول، يقال له: أبو حنيفة فأتيه ، فأتته وقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل، وقد تركت دينك؟! أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها ثم خرج إلينا وقد وضع كتابا: إن الله تعالى في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى : وهو معكم ؟ قال: هو كما تكتب إلى الرجل: إني معك، وأنت غائب عنه .

                                                              قال البيهقي: فقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله فيما نفى، عن الله تعالى من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية: وتبع [ق243] مطلق السمع في [ ص: 227 ] قوله: إن الله عز وجل في السماء. هذا لفظه في كتاب "الأسماء والصفات".

                                                              قالوا: وأما اختلاف مقدار المسافة في حديثي العباس وأبي هريرة: فهو مما يشهد بتصديق كل منهما للآخر، فإن المسافة يختلف تقديرها بحسب اختلاف السير الواقع فيها، فسير البريد مثلا: يقطع بقدر سير ركاب الإبل سبع مرات، وهذا معلوم بالواقع، فما تسيره الإبل سيرا قاصدا في عشرين يوما، يقطعه البريد في ثلاثة، فحيث قدر النبي صلى الله عليه وسلم بالسبعين أراد به السير السريع سير البريد، وحيث قدر بالخمسمائة أراد به السير الذي يعرفونه سير الإبل والركاب، فكل منهما يصدق الآخر، ويشهد بصحته، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.




                                                              الخدمات العلمية