الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم من جاء منكم الجمعة فليغتسل وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم الجمعة ولمسلم إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل وللبيهقي بإسناد صحيح من أتى الجمعة من الرجال والنساء . فليغتسل ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الثالث) وعن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم من جاء منكم الجمعة فليغتسل وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم الجمعة [ ص: 166 ] فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه من الطريق الأولى البخاري من طريق شعيب بن أبي حمزة ومسلم من طريق يونس بن يزيد كلاهما عن الزهري عن سالم عن أبيه ورواه الزهري أيضا عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه رواه مسلم والنسائي ورواه الزهري أيضا عن سالم وعبد الله ابني عبد الله بن عمر عن أبيهما رواه مسلم والنسائي أيضا وهذا يدل على أنه عند الزهري عنهما وحكى الترمذي في جامعه عن البخاري أنه قال الصحيح حديث الزهري عن سالم عن أبيه وأخرجه من الطريق الثانية البخاري من طريق مالك ومسلم من طريق الليث بن سعد كلاهما عن نافع ولفظ مسلم إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل .

                                                            (الثانية) هذا الحديث كالذي قبله في أن ظاهره إيجاب غسل الجمعة بل هو أظهر منه في ذلك لقوله فليغتسل وهذه الصيغة حقيقة في الوجوب بخلاف قوله في الحديث المتقدم كان يأمر فإنه يحتمل الوجوب والاستحباب كما هو مقرر في الأصول وهذا بالنسبة إلى لفظ الرواية التي أوردها المصنف وقد روي في ذلك الحديث لفظ آخر : أولم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا جاء أحدكم الجمعة وهو في الصحيح أيضا فهو مساو للفظ هذا الحديث وقد تقدم إيضاح الكلام على هذه المسألة في الحديث الذي قبله .

                                                            (الثالثة) قد تبين برواية مسلم التي قدمتها أن قوله إذا جاء أحدكم الجمعة معناه إذا أراد المجيء لقوله إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة وهو يرد على أهل الظاهر قولهم أنه يصح الاغتسال في جميع النهار ولو قبيل الغروب وقال ابن حزم وأما قوله عليه الصلاة والسلام إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل فظاهر هذا اللفظ أن الغسل بعد الرواح كما قال تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أو مع الرواح كما قال تعالى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن أو قبل الرواح كما قال تعالى إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة وكل ذلك ممكن قلت لولا رواية إذا أراد لكان ظاهر الحديث أن الاغتسال بعده كما في قوله تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ ص: 167 ] لكن تلك الرواية صرحت بكونه قبله وادعى ابن حزم أن الرواية التي فيها إذا أراد فيها بعض الصور وهو مردود لأنها بينت المراد وقد تعلقوا بإضافة الغسل إلى اليوم في حديث أبي سعيد وغيره وذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة أن هذا القول يكاد أن يكون مجزوما ببطلانه قال وقد بين في بعض الأحاديث أن الغسل لأجل الروائح الكريهة ويفهم منه أن المقصود عدم تأذي الحاضرين وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة قال وكذلك أقول : لو قدمه بحيث لا يحصل هذا المقصود لم يعتد به والمعنى إذا كان معلوما كالنص قطعا أو ظنا مقاربا للقطع فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ قال ومما يبطله أن الأحاديث التي علق فيها الأمر بالمجيء والإتيان قد دلت على توجه الأمر إلى هذه الحالة والأحاديث التي تدل على تعليق الحكم باليوم لا تتناول تعليقه بهذه الحالة فهو إذا تمسك بتلك أبطل دلالة هذه الأحاديث على تعلق الأمر بهذه الحالة وليس له ذلك ونحن إذا قلنا بتعليقه بهذه الحالة فقد علمنا بهذه الحالة من غير إبطال لما استدلوا به انتهى قال ابن حزم فإن قالوا من قال قبلكم إن الغسل لليوم قلنا كل من ذكرنا عنه في ذلك قولا من الصحابة رضي الله عنهم فهو ظاهر قولهم وهو قول أبي يوسف أيضا وغيره انتهى قلت أما الصحابة فالمفهوم من كلامهم عكس ما فهمه هو لأن المفهوم من كلامهم أن المقصود قطع الروائح الكريهة المؤذية للحاضرين وهذا مفقود فيما بعد الصلاة وأما أبو يوسف فقد حكى عنه صاحب الهداية من الحنفية أن الغسل للصلاة فدل على انفراد الظاهرية بما ذكروه وخرقهم الإجماع فيه وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة فليس بغسل للسنة ولا للجمعة ولا فاعل ما أمر به .

                                                            (الرابعة) استدل به لمالك على أنه يعتبر أن يكون الغسل متصلا بالذهاب إلى الجمعة وذهب الجمهور إلى أن ذلك مستحب ولا يشترط اتصاله به بل متى اغتسل بعد الفجر أجزأه ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد والحسن البصري والنخعي وعطاء بن أبي رباح وأبي جعفر الباقر والحكم والشعبي وحكاه ابن المنذر عن الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وبه قال ابن وهب [ ص: 168 ] صاحب مالك قال ابن المنذر وقال الأوزاعي يجزئه أن يغتسل قبل الفجر للجنابة والجمعة وحكى ابن حزم عن الأوزاعي أنه قال كقول مالك لا يجزئ غسل الجمعة إلا متصلا بالرواح قال إلا أن الأوزاعي قال إن اغتسل قبل الفجر ونهض إلى الجمعة أجزأه وحكى إمام الحرمين في النهاية وجها أنه يجزئ قبل الفجر كغسل العيد قال النووي وهو شاذ منكر وجواب الجمهور عن هذا الحديث أنه تبين برواية مسلم تعليق الأمر بالغسل على إرادة إتيان الجمعة وليس يلزم أن يكون إتيان الجمعة متصلا بإرادة ذلك فقد يريد عقب الفجر إتيانها ويتأخر الإتيان إلى بعد الزوال ولا شك أن كل من تجب عليه الجمعة وهو مواظب على الواجبات إذا خطر له عقب الفجر أمر الجمعة أراد إتيانها وإن تأخر الإتيان زمنا طويلا وذلك يدل على أنه ليس المدار على نفس الإتيان بل على إرادته ليحترز به عمن هو مسافر أو معذور بغير ذلك من الأعذار القاطعة عن الجمعة والله أعلم .



                                                            (الخامسة) فيه استحباب الاغتسال لكل من أراد إتيان الجمعة سواء أكانت واجبة عليه أو غير واجبة عليه كالصبي المميز والمرأة والعبد وغيرهم وهو مذهب مالك كما حكاه ابن المنذر والقاضي عياض وغيرهما وهو المشهور عند أصحابنا وروى ابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه من طريق عثمان بن واقد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبيدة ابنة نابل قالت سمعت ابن عمر وابنة سعد بن أبي وقاص يقول للنساء : من جاء منكن الجمعة فلتغتسل وعن طاوس أنه كان يأمر نساءه يغتسلن يوم الجمعة وعن شقيق أنه كان يأمر أهله الرجال والنساء بالغسل يوم الجمعة وقال ابن حزم وغسل يوم الجمعة فرض لازم لكل بالغ من الرجال والنساء ولنا وجه ثان أنه إنما يستحب لمن تلزمه الجمعة دون النساء والصبيان والعبيد والمسافرين ووجه ثالث أنه يستحب للذكور خاصة حكاه النووي في شرح مسلم وروى ابن أبي شيبة عن الشعبي ليس على النساء غسل يوم الجمعة وبه قال أحمد كما حكاه ابن المنذر وفي صحيح البخاري عن ابن عمر معلقا إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة وقد يقال إن هذا الحديث لا يتناول النساء [ ص: 169 ] لقوله إذا جاء أحدكم وهذا خطاب للذكور فإن قيل يطلق على الإناث تغليبا قيل هو مجاز والأصل خلافه وأما الرواية الأخرى التي لفظها من جاء وهي من صيغ العموم المتناولة للإناث فقد خصص العموم قوله بعده منكم لكن إن لم يتناول اللفظ الإناث فحكمهن كالرجال قياسا لهن عليهم لأن الأصل استواء المكلفين في الأحكام والله أعلم .



                                                            (السادسة) مفهوم قوله من جاء منكم الجمعة فليغتسل أنه لا يستحب الغسل لمن لم يحضرها وقد ورد التصريح بهذا المفهوم في رواية البيهقي المتقدمة في الفائدة قبلها من حديث ابن عمر ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء وإسناده صحيح وهذا أصح الوجهين عند الشافعية وهو مذهب مالك وأحمد وحكى عن الأكثرين وبه قال أبو يوسف والوجه الثاني لأصحابنا أنه يستحب لكل أحد سواء حضر الجمعة أم لا كالعبد وهو مذهب الحنفية وحكىالنووي في الروضة وجها أنه إنما يستحب لمن تجب عليه الجمعة وإن لم يحضرها لعذر ومذهب أهل الظاهر وجوب الاغتسال ذلك اليوم على كل مكلف مطلقا لأنهم يرونه لليوم قال ابن حزم وهو لازم للحائض والنفساء كلزومه لغيرهما انتهى وقد أبعد في ذلك جدا .

                                                            (السابعة) ليس المراد بالمجيء إلى الجمعة أن يكون بينه وبين المكان الذي تقام فيه الجمعة مسافة يحتاج إلى قطعها بل المقيم في المكان الذي يجمع فيه حكمه كذلك فالمجيء من مكان آخر ليس مقصودا وإنما المراد من أراد أن يصلي الجمعة فليغتسل وإن كان سبب ورود الأمر بالغسل للجمعة أنهم كانوا ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في الغبار فقال لهم لو تطهرتم ليومكم هذا ، كما في حديث عائشة ولكن الحكم يعم الآتي من بعد ومن قرب ومن هو مقيم في مكان الجمعة والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية