الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 48 ] مسألة : فرض على كل مضح أن يأكل من أضحيته ولا بد لو لقمة فصاعدا ، وفرض عليه أن يتصدق أيضا منها بما شاء قل أو كثر ولا بد ، ومباح له أن يطعم منها الغني ، والكافر ، وأن يهدي منها إن شاء ذلك .

                                                                                                                                                                                          فإن نزل بأهل بلد المضحي جهد أو نزل به طائفة من المسلمين في جهد جاز للمضحي أن يأكل من أضحيته من حين يضحي بها إلى انقضاء ثلاث ليال كاملة مستأنفة يبتدئها بالعدد من بعد تمام التضحية ثم لا يحل له أن يصبح في منزله منها بعد تمام الثلاث ليال شيء أصلا - لا ما قل ولا ما كثر .

                                                                                                                                                                                          فإن ضحى ليلا لم يعد تلك الليلة في الثلاث ; لأنه تقدم منها شيء ; فإن لم يكن شيء من هذا فليدخر منها ما شاء .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق البخاري نا أبو عاصم هو الضحاك بن مخلد - عن زيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء ; فلما كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي ؟ قال : كلوا ، وأطعموا ، وادخروا ، فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم " أن عمرة بنت عبد الرحمن قالت له سمعت عائشة أم المؤمنين تقول : إنهم قالوا : { يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويحملون فيها الودك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟ قالوا : نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث قال عليه السلام : بعد كلوا ، وادخروا ، وتصدقوا } .

                                                                                                                                                                                          فهذه أوامر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل خلافها قال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } . [ ص: 49 ]

                                                                                                                                                                                          ومن ادعى أنه ندب فقد كذب ، وقفا ما لا علم له به ويكفيه أن جميع الصحابة رضي الله عنهم لم يحملوا نهيه عليه السلام عن أن يصبح في بيوتهم بعد ثلاث منها شيء إلا على الفرض ولم يقدموا على مخالفته إلا بعد إذنه ، ولا فرق بين الأمر والنهي ، قال عليه السلام : { إذا نهيتكم عن شيء فاتركوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم } وعم عليه السلام بالإطعام فجائز أن يطعم منه كل آكل ، إذ لو حرم من ذلك شيء لبينه عليه السلام { وما كان ربك نسيا } ، { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } وادخار ساعة فصاعدا يسمى ادخارا .

                                                                                                                                                                                          والعجب كله ممن يستخرج بعقله القاصر ورأيه الفاسد عللا لأوامر الله تعالى وأوامر رسوله عليه السلام لا برهان له بها إلا دعواه الكاذبة ، ثم يأتي إلى حكم جعله عليه السلام موجبا لحكم آخر فلا يلتفت إليه ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجهد الحال بالناس موجبا لئلا يبقى عند أحد من أضحيته شيء بعد ثالثة فلم يلتفتوا إلى ذلك ونعوذ بالله من هذا .

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا ما روينا من طريق إبراهيم الحربي عن الحكم بن موسى عن الوليد عن طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن مسعود { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأكل منها ثلثا ونتصدق بثلثها ونطعم الجيران ثلثها } . فطلحة مشهور بالكذب الفاضح ، وعطاء لم يدرك ابن مسعود ولا ولد إلا بعد موته ، ولو صح لقلنا به مسارعين إليه ، لكن روينا من طريق عبد الرزاق عن عمر عن عاصم عن أبي مجلز قال : أمر ابن عمر أن يرفع له من أضحيته بضعة ويتصدق بسائرها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي الجهم نا أحمد بن فرج نا الهروي نا ابن فضيل عن عطاء .

                                                                                                                                                                                          عن [ ص: 50 ] إبراهيم النخعي قال : سافر معي تميم بن سلمة فلما ذبحنا أضحيته فأخذ منها بضعة فقال : آكلها ؟ فقلت له : وما عليك أن لا تأكل منها ؟ فقال تميم : يقول الله تعالى : { فكلوا منها } فتقول أنت : وما عليك أن لا تأكل .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : حمل هذا الأمر تميم على الوجوب وهذا الحق الذي لا يسع أحدا سواه ، وتميم من أكابر أصحاب ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة عن محمد بن فضيل عن عبد الملك عن مولى لأبي سعيد عن أبي سعيد أنه كان يقول لبنيه : إذا ذبحتم أضاحيكم فأطعموا ، وكلوا ، وتصدقوا . وعن ابن مسعود أيضا نحو هذا - وعن عطاء نحوه ; وصح عن سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير : ليس لصاحب الأضحية إلا ربعها .

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا : ما رويناه من طريق البخاري نا إسماعيل بن أبي أويس حدثني أخي أبو بكر عن سليمان هو ابن بلال - عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة { عن عائشة قالت في الضحية كنا نملح منه فنقدم به إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال : لا تأكلوا إلا ثلاثة أيام } وليست بعزيمة ولكن أراد أن يطعم منه ; والله أعلم .

                                                                                                                                                                                          فهذا خبر لا حجة فيه ، لأن قول القائل " ليست بعزيمة " ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو من ظن بعض رواة الخبر ، يبين ذلك قوله في آخر هذا الخبر { أراد أن يطعم منه } والله أعلم .

                                                                                                                                                                                          وأيضا : فإن أبا بكر بن أبي أويس مذكور عنه في روايته أمر عظيم ، وقد حمل علي بن أبي طالب هذا القول منه عليه السلام على الوجوب ، وابن عمر كما ذكرنا . [ ص: 51 ]

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق مسلم حدثني حرملة بن يحيى عن ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني أبو عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال : ثم صليت مع علي بن أبي طالب فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا } . ومن طريق وكيع نا سفيان الثوري عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قال : لا يأكل أحد من لحم أضحيته فوق ثلاث .

                                                                                                                                                                                          قال علي : حديث أبي عبيد مولى ابن أزهر كان عام حصر عثمان رضي الله عنه وكان أهل البوادي قد ألجأتهم الفتنة إلى المدينة وأصابهم جهد فأمر لذلك بمثل ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهد الناس ودفت الدافة - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية