الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 172 ] [ ص: 173 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة الأعراف واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث

أعقب ما يفيد أن التوحيد جعل في الفطرة بذكر حالة اهتداء بعض الناس إلى نبذ الشرك في مبدأ أمره ثم تعرض وساوس الشيطان له بتحسين الشرك .

ومناسبتها للتي قبلها إشارة العبرة من حال أحد الذين أخذ الله عليهم العهد بالتوحيد والامتثال لأمر الله ، وأمده الله بعلم يعينه على الوفاء بما عاهد الله عليه في الفطرة ، ثم لم ينفعه ذلك كله حين لم يقدر الله له الهدى المستمر .

وشأن القصص المفتتحة بقوله " واتل عليهم " أن يقصد منها وعظ المشركين بصاحب القصة بقرينة قوله " ذلك مثل القوم " إلخ ، ويحصل من ذلك أيضا تعليم مثل قوله واتل عليهم نبأ نوح واتل عليهم نبأ إبراهيم نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق ونظائر ذلك . فضمير عليهم راجع إلى المشركين الذين وجهت إليهم العبر والمواعظ من أول هذه السورة ، وقصت عليهم [ ص: 174 ] قصص الأمم مع رسلهم ، على أن توجيه ضمائر الغيبة إليهم أسلوب متبع في مواقع كثيرة من القرآن ، كما قدمناه غير مرة ، فهذا من قبيل رد العجز على الصدر .

ومناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قوما تغلب عليهم الأمية فأراد الله أن يبلغ إليهم من التعليم ما يساوون به حال أهل الكتاب في التلاوة ، فالضمير المجرور بعلى عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون ، وكثيرا ما يجيء ضمير جمع الغائب في القرآن مرادا به المشركون كقوله عم يتساءلون .

والنبأ الخبر المروي .

وظاهر اسم الموصول المفرد أن صاحب الصلة واحد معين ، وأن مضمون الصلة حال من أحواله التي عرف بها ، والأقرب أن يكون صاحب هذا النبأ ممن للعرب إلمام بمجمل خبره .

فقيل المعني به أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وروي هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، بأسانيد كثيرة عند الطبري ، وعن زيد بن أسلم ، وقال القرطبي في التفسير : هو الأشهر ، وهو قول الأكثر ، ذلك أن أمية بن أبي الصلت الثقفي كان ممن أراد اتباع دين غير الشرك طالبا دين الحق ، ونظر في التوراة والإنجيل فلم ير النجاة في اليهودية ولا النصرانية ، وتزهد وتوخى الحنيفية دين إبراهيم وأخبر أن الله يبعث نبيا في العرب ، فطمع أن يكونه ، ورفض عبادة الأصنام وحرم الخمر وذكر في شعره أخبارا من قصص التوراة ، ويروى أنه كانت له إلهامات ومكاشفات وكان يقول : كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفية زور

وله شعر كثير في أمور الإلهية ، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - أسف أن لم يكن هو الرسول المبعوث في العرب ، وقد اتفق أن خرج إلى البحرين قبل البعثة وأقام هنالك ثمان سنين ثم رجع إلى مكة فوجد البعثة وتردد في الإسلام ، ثم خرج إلى الشام ورجع بعد وقعة بدر فلم يؤمن بالنبيء - صلى الله عليه وسلم - حسدا ، ورثى من قتل من المشركين يوم بدر ، وخرج إلى الطائف بلاد قومه فمات كافرا . وكان يذكر في شعره الثواب والعقاب واسم الله وأسماء الأنبياء ، وقد قال فيه النبيء - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 175 ] كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم وروي عن أمية أنه قال لما مرض مرض موته " أنا أعلم أن الحنيفية حق ولكن الشك يداخلني في محمد "

فمعنى " آتيناه آياتنا " أن الله ألهم أمية كراهية الشرك ، وألقى في نفسه طلب الحق ، ويسر له قراءة كتب الأنبياء ، وحبب إليه الحنيفية ، فلما انفتح له باب الهدى وأشرق نور الدعوة المحمدية كابر وحسد وأعرض عن الإسلام ، فلا جرم أن كانت حاله أنه انسلخ عن جميع ما يسر له ، ولم ينتفع به عند إبان الانتفاع ، فكان الشيطان هو الذي صرفه عن الهدى فكان من الغاوين ، إذ مات على الكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .

وقال سعيد بن المسيب نزلت في أبي عامر بن صيفي الراهب واسمه النعمان الخزرجي ، وكان يلقب بالراهب في الجاهلية لأنه قد تنصر في الجاهلية ولبس المسوح وزعم أنه على الحنيفية ، فلما قدم النبيء - صلى الله عليه وسلم - المدينة دخل على النبيء فقال : يا محمد ما الذي جئت به ؟ قال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم . قال : فإني عليها ، فقال النبيء : لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها " فكفر وخرج إلى مكة يحرض المشركين على قتال النبيء - صلى الله عليه وسلم - ويخرج معهم إلى أن قاتل في حنين بعد فتح مكة فلما انهزمت هوازن يئس وخرج إلى الشام فمات هنالك .

وذهب كثير من المفسرين إلى أنها نزلت في رجل من الكنعانيين وكان في زمن موسى - عليه السلام - يقال له بلعام بن باعور ، وذكروا قصته فخلطوها وغيروها واختلفوا فيها ، والتحقيق أن بلعام هذا كان من صالحي أهل مدين وعرافيهم في زمن مرور بني إسرائيل على أرض " مؤاب " ولكنه لم يتغير عن حال الصلاح ، وذلك مذكور في سفر العدد من التوراة في الإصحاحات 22 - 23 - 24 فلا ينبغي الالتفات إلى هذا القول لاضطرابه واختلاطه .

والإيتاء هنا مستعار للإطلاع وتيسير العلم مثل قوله وآتاه الله العلم والحكمة

و " الآيات " دلائل الوحدانية التي كرهت إليه الشرك وبعثته على تطلب الحنيفية بالنسبة لأمية بن أبي الصلت ، أو دلائل الإنجيل على صفة محمد - صلى الله [ ص: 176 ] عليه وسلم - بالنسبة للراهب أبي عامر بن صيفي .

والانسلاخ حقيقته خروج جسد الحيوان من جلده حينما يسلخ عنه جلده ، والسلخ إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده ، واستعير في الآية للانفصال المعنوي ، وهو ترك التلبس بالشيء أو عدم العمل به ، ومعنى الانسلاخ عن الآيات الإقلاع عن العمل بما تقتضيه ، وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية .

وأتبعه بهمزة قطع وسكون المثناة الفوقية بمعنى لحقه غير مفلت كقوله فأتبعه شهاب ثاقب فأتبعهم فرعون بجنوده وهذا أخص من اتبعه بتشديد المثناة ووصل الهمزة .

والمراد بالغاوين : المتصفين بالغي وهو الضلال " فكان من الغاوين " أشد مبالغة في الاتصاف بالغواية من أن يقال : وغوى أو كان غاويا ، كما تقدم عند قوله - تعالى - قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين في سورة الأنعام .

ورتبت أفعال الانسلاخ والاتباع والكون من الغاوين بفاء العطف على حسب ترتيبها في الحصول ، فإنه لما عاند ولم يعمل بما هداه الله إليه حصلت في نفسه ظلمة شيطانية مكنت الشيطان من استخدامه وإدامة إضلاله ، فالانسلاخ عن الآيات أثر من وسوسة الشيطان ، وإذا أطاع المرء الوسوسة تمكن الشيطان من مقاده ، فسخره وأدام إضلاله ، وهو المعبر عنه ب أتبعه فصار بذلك في زمرة الغواة المتمكنين من الغواية .

وقوله - تعالى - ولو شئنا لرفعناه بها أفاد أن تلك الآيات شأنها أن تكون سببا للهداية والتزكية ، لو شاء الله له التوفيق وعصمه من كيد الشيطان وفتنته فلم ينسلخ عنها ، وهذه عبرة للموفقين ليعلموا فضل الله عليهم في توفيقهم ، فالمعنى : ولو شئنا لزاد في العمل بما آتيناه من الآيات فلرفعه الله بعمله .

والرفعة مستعارة لكمال النفس وزكائها ، لأن الصفات الحميدة تخيل صاحبها مرتفعا على من دونه ، أي ولو شئنا لاكتسب بعمله بالآيات فضلا وزكاء وتميزا بالفضل ، فمعنى " لرفعناه " ليسرنا له العمل بها الذي يشرف به .

وقد وقع الاستدراك على مضمون قوله " ولو شئنا لرفعناه بها " بذكر ما يناقض [ ص: 177 ] تلك المشيئة الممتنعة ، وهو الاستدراك بأنه انعكست حاله فأخلد إلى الأرض ، أي ركن ومال إلى الأرض ، والكلام تمثيل لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والتقوى ، بحال من كان مرتفعا عن الأرض فنزل من اعتلاء إلى أسفل فبذكر الأرض علم أن الإخلاد هنا ركون إلى السفل أي تلبس بالنقائص والمفاسد .

واتباع الهوى ترجيح ما يحسن لدى النفس من النقائص المحبوبة ، على ما يدعو إليه الحق والرشد ، فالاتباع مستعار للاختيار والميل ، والهوى شاع في المحبة المذمومة الخاسرة عاقبتها .

وقد تفرع على هذه الحالة تمثيله بالكلب اللاهث ، لأن اتصافه بالحالة التي صيرته شبيها بحال الكلب اللاهث تفرع على إخلاده إلى الأرض واتباع هواه ، فالكلام في قوة أن يقال : ولكنه أخلد إلى الأرض فصار في شقاء وعناد كمثل الكلب إلخ .

واستعمال القرآن لفظ المثل بعد كاف التشبيه مألوف بأنه يراد به تشبيه الحالة بالحالة ، وتقدم قوله - تعالى - مثلهم كمثل الذي استوقد نارا في سورة البقرة ، فلذلك تعين أن التشبيه هنا لا يخرج عن المتعارف في التشبيه المركب ، فهذا الضال تحمل كلفة اتباع الدين الصالح وصار يطلبه في حين كان غير مكلف بذلك في زمن الفترة فلقي من ذلك نصبا وعناء ، فلما حان حين اتباع الحق ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - تحمل مشقة العناد والإعراض عنه في وقت كان جديرا فيه بأن يستريح من عنائه لحصول طلبته فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الموصوف باللهث ، فهو يلهث في حالة وجود أسباب اللهث من الطرد والإرهاب والمشقة وهي حالة الحمل عليه ، وفي حالة الخلو عن ذلك السبب وهي حالة تركه في دعة ومسالمة ، والذي ينبه على هذا المعنى هو قوله " أو تتركه " .

وليس لشيء من الحيوان حالة للتشبيه بها في الحالتين غير حالة الكلب اللاهث لأنه يلهث إذا أتعب وإذا كان في دعة ، فاللهث في أصل خلقته .

وهذا التمثيل من مبتكرات القرآن فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جراء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه وإن لم يكن لاضطراب باطنه سبب آت من غيره [ ص: 178 ] فمعنى " إن تحمل عليه " إن تطارده وتهاجمه . مشتق من الحمل الذي هو الهجوم على أحد لقتاله ، يقال : حمل فلان على القوم حملة شعواء أو حملة منكرة ، وقد أغفل المفسرون توضيحه وأغفل الراغب في مفردات القرآن هذا المعنى لهذا الفعل .

فهذا تشبيه تمثيل مركب منتزعة فيه الحالة المشبهة والحالة المشبه بها من متعدد ، ولما ذكر تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث في شق الحالة المشبه بها ، تعين أن يكون لها مقابل في الحالة المشبهة ، وتتقابل أجزاء هذا التمثيل بأن يشبه الضال بالكلب ويشبه شقاؤه واضطراب أمره في مدة البحث عن الدين بلهث الكلب في حالة تركه في دعة ، تشبيه المعقول بالمحسوس ، ويشبه شقاؤه في إعراضه عن الدين الحق عند مجيئه بلهث الكلب في حالة طرده وضربه تشبيه المعقول بالمحسوس . وقد أغفل هذا الذين فسروا هذه الآية فقرروا التمثيل بتشبيه حالة بسيطة بحالة بسيطة في مجرد التشويه أو الخسة ، فيئول إلى أن الغرض من تشبيهه بالكلب إظهار خسة المشبه ، كما درج عليه في الكشاف ، ولو كان هذا هو المراد لما كان لذكر إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث كبير جدوى بل يقتصر على أنه لتشويه الحالة المشبه بها لتكتسب الحالة المشبهة تشويها ، وذلك تقصير في حق التمثيل .

والكلب حيوان من ذوات الأربع ذو أنياب وأظفار كثير النبح في الليل قليل النوم فيه كثير النوم في النهار ، يألف من يعاشره يحرس مكانه من الطارقين الذين لا يألفهم ، ويحرس الأنعام التي يعاشرها ، ويعدو على الذئاب ويقبل التعليم لأنه ذكي .

ويلهث إذا أتعب أو اشتد عليه الحر ، ويلهث بدون ذلك لأن في خلقته ضيقا في مجاري النفس يرتاح له باللهث .

وجملة إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث في موضع الحال من الكلب . والخطاب في " تحمل " " وتترك " لمخاطب غير معين ، والمعنى إن يحمل عليه حامل أو يتركه تارك .

واللهث سرعة التنفس مع امتداد اللسان لضيق النفس ، وفعله بفتح الهاء وبكسرها ، ومضارعه بفتحها لا غير ، والمصدر اللهث بفتح اللام والهاء ويقال [ ص: 179 ] اللهاث بضم اللام لأنه من الأدواء . وليس بصوت .

التالي السابق


الخدمات العلمية