الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وإن كان في بعض بدنه قرح يخاف استعمال الماء فيه التلف غسل الصحيح وتيمم عن الجريح ، وقال أبو إسحاق : يحتمل قولا آخر أن يقتصر على التيمم ، كما لو عجز عن الماء في بعض بدنه للإعواز ، والأول أصح ; ; لأن العجز هناك ببعض الأصل ، وهاهنا العجز ببعض البدن ، وحكم الأمرين مختلف ، ألا ترى أن الحر إذا عجز عن بعض الأصل في الكفارة جعل كالعاجز عن جميعه في جواز الاقتصار على البدل ، ولو كان نصفه حرا ونصفه عبدا لم يكن العجز بالرق في البعض كالعجز بالجميع ، بل إذا ملك بنصفه الحر مالا لزمه أن يكفر بالمال ) .

                                      [ ص: 333 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 333 ] الشرح ) قال أصحابنا : إذا كان في بعض أعضاء طهارة المحدث أو الجنب والحائض والنفساء قرح ونحوه ، وخاف من استعمال الماء الخوف المجوز للتيمم لزمه غسل الصحيح والتيمم عن الجريح ، هذا هو الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقاله جمهور أصحابنا المتقدمين .

                                      وقال أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة والقاضي أبو حامد المروزي : فيه قولان : كمن وجد بعض ما يكفيه من الماء ( أحدهما ) : يجب غسل الصحيح والتيمم ( والثاني ) : يكفيه التيمم ، والمذهب الأول ، وأبطل الأصحاب هذا التخريج بما ذكره المصنف .

                                      قال أصحابنا : فإن كان الجريح جنبا أو حائضا أو نفساء ، فهو مخير إن شاء غسل الصحيح ثم تيمم عن الجريح ، وإن شاء تيمم ثم غسل إذ لا ترتيب في طهارته . قال أصحابنا : وهذا بخلاف المسافر إذا وجد بعض ما يكفيه ، وأوجبنا استعماله فإنه يجب استعماله أولا ثم يتيمم ; لأنه هناك أبيح له التيمم لعدم الماء ، فلا يجوز مع وجوده ، وهنا أبيح للجراحة وهي موجودة .

                                      هذا هو الصحيح المشهور ، وحكى القاضي حسين وإمام الحرمين والمتولي وغيرهم - وجها - أنه يجب تقديم الغسل هنا وهو شاذ ضعيف . قال أصحابنا : فإن كانت الجراحة على وجهه فخاف إن غسل رأسه نزول الماء إليها لم يسقط غسل الرأس ، بل يلزمه أن يستلقي على قفاه أو يخفض رأسه ، فإن خاف انتشار الماء وضع بقرب الجراحة خرقة مبلولة ، وتحامل عليها ، ليقطر منها ما يغسل الصحيح الملاصق للجريح .

                                      قال صاحبا التهذيب والبحر : فإن لم يمكنه ذلك أمس ما حوالي الجريح الماء من غير إفاضة وأجزأه ، وقد رأيت نص الشافعي رحمه الله في الأم نحو هذا ، فإنه قال : إن خاف لو أفاض الماء إصابة الجريح أمس الماء الصحيح إمساسا لا يفيض وأجزأه ذلك إذا أمس الشعر والبشرة ، هذا نصه بحروفه ، قال أصحابنا : فإن كان الجرح في ظهره استعان بمن يغسله ويمنع وصول الماء إلى الجراحة ، وكذا الأعمى يستعين ، فإن لم يجد متبرعا لزمه تحصيله بأجرة المثل ، فإن لم يجد غسل ما يقدر عليه وتيمم للباقي وأعاد لندوره ، نص عليه الشافعي ، واتفق الأصحاب عليه .

                                      قال أصحابنا : ولا يجب مسح موضع الجراحة بالماء ، وإن كان لا يخاف [ ص: 334 ] منه ضررا ، ونقل إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على هذا ; لأن الواجب الغسل ، فإذا تعذر فلا فائدة في المسح بخلاف مسح الجبيرة ، فإنه مسح على حائل كالخف قال أصحابنا : ولا يلزمه أن يضع عليها عصابة لتمسح عليها ، هذا هو الصحيح المشهور ، وحكى إمام الحرمين عن والده أنه أوجب وضع شيء عليها إذا أمكنه ليمسح عليه . قال الإمام : ولم أر هذا لأحد من الأصحاب وفيه بعد من حيث إنه لا يوجد له نظير في الرخص ، وليس للقياس مجال في الرخص ، ولو اتبع لكان أولى شيء ، وأقربه أن يمسح الجرح عند الإمكان ، فإذا كان ذلك لا يجب بالاتفاق ، فوضع العصابة أولى بأن لا يجب .

                                      قال الإمام : ولو كان متطهرا فأرهقه حدث ووجد من الماء ما يكفيه لوجهه ويديه ورأسه دون رجليه ، ولو لبس الخف أمكنه المسح عليه ، فهل يلزمه لبس الخف ليمسح عليه بعد الحدث ؟ قياس ما ذكره شيخي إيجاب ذلك ، وهو بعيد عندي ، ولشيخي أن يفرق بأن مسح الخف رخصة محضة فلا يليق بها إيجابها ، وما نحن فيه ضرورة فيجب فيه الممكن ، هذا كلام الإمام وحكى الغزالي في هاتين الصورتين ترددا ، ومراده به ما ذكره الإمام .

                                      قال أصحابنا : فإن احتاج إلى العصابة لإمساك الدواء أو لخوف انبعاث الدم عصبها على طهر على موضع الجراحة ، وما لا يمكن عصبها إلا بعصبة من الصحيح ، فإن خاف من نزعها لما يجب المسح عليها بدلا عما تحتها من الصحيح كالجبيرة لا عن موضع الجراحة . قال أصحابنا : فإن كانت الجراحة على موضع التيمم ، وجب إمرار التراب على موضعها ; لأنه لا ضرر ولا خوف عليه في ذلك بخلاف غسله بالماء ، قال الشافعي والأصحاب : حتى لو كان للجراحة أفواه مفتحة وأمكن إمرار التراب عليها لزمه ذلك ; لأنها صارت ظاهرة .

                                      قال أصحابنا : واستحب الشافعي رحمه الله هنا أن يقدم التيمم ثم يغسل صحيح الوجه واليدين ليكون الغسل بعده مزيلا آثار الغبار عن الوجه واليدين ، هذا حكم الجنب والحائض والنفساء ، أما المحدث إذا كانت جراحته في أعضاء الوضوء ، ففيه ثلاثة أوجه مشهورة عند الخراسانيين ( أحدها ) : أنه كالجنب فيتخير بين تقديم التيمم على غسل الصحيح وتأخيره وتوسيطه ، وهذا اختيار الشيخ أبي علي السنجي - بكسر السين المهملة وبالجيم - وبه قطع صاحب الحاوي قال : والأفضل [ ص: 335 ] تقديم الغسل ، ( والثاني ) : يجب تقديم غسل جميع الصحيح ( والثالث ) : يجب الترتيب ، فلا ينتقل من عضو حتى يكمل طهارته محافظة على الترتيب فإنه واجب ، وهذا هو الأصح عند الأصحاب صححه المتولي والروياني وصاحب العدة وآخرون من الخراسانيين ، وقطع به جمهور العراقيين منهم القاضي أبو الطيب والمحاملي في المجموع وابن الصباغ والشيخ نصر في كتابيه ، والشاشي في المعتمد وآخرون ، ونقله الروياني عن جمهور الأصحاب . فعلى هذا قال أصحابنا : إن كانت الجراحة في وجهه وجب تكميل طهارة الوجه أولا ، فإن شاء غسل صحيحه ثم تيمم عن جريحه ، وإن شاء تيمم ثم غسل ، والأولى تقديم التيمم قاله الشيخ نصر .

                                      وذكر المتولي وجها أنه يجب تقديم الغسل وهو الشاذ الذي حكيناه في الجنب ، وليس بشيء ولا يخفى تفريعه فيما بعد ، ولكن لا يفرع عليه ، فإذا فرغ من طهارة الوجه على ما ذكرنا ; غسل اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين ، وإن كانت الجراحة في يديه أو إحداهما غسل وجهه ثم إن شاء غسل صحيح يديه ثم تيمم عن جريحهما ، وإن شاء تيمم ثم غسل ، ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه ، وإن كانت الجراحة في جميع رأسه غسل الوجه واليدين ثم تيمم عن الرأس ثم غسل الرجلين ، وإن كانت الجراحة في الرجلين طهر الأعضاء قبلهما ثم تخير فيهما بين تقديم الغسل والتيمم . قال صاحب البيان : إذا كانت الجراحة في يديه استحب أن يجعل كل يد كعضو مستقل فيغسل وجهه ثم صحيح اليمنى ، ثم يتيمم عن جريحهما أو يقدم التيمم على غسل صحيحها ثم يغسل صحيح اليسرى ثم يتيمم عن جريحهما أو يعكس .

                                      قال : وكذا الرجلان . وهذا الذي قاله حسن ، فإن الترتيب بين اليمين واليسار سنة ، فإذا اقتصر على تيمم واحد فقد طهرهما في حالة واحدة .

                                      هذا كله إذا كانت الجراحة في عضو ، فإن كانت في عضوين وجب تيممان ، وإن كانت في ثلاثة وجب ثلاثة ، فإن كانت في الوجه واليدين غسل صحيح الوجه ثم تيمم عن جريحه أو عكس ثم غسل صحيح اليدين ثم تيمم عن جريحهما أو عكس ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين ، وإن كانت في اليدين والرجلين غسل الوجه ثم طهر اليدين غسلا وتيمما ثم مسح الرأس ثم طهر الرجلين غسلا وتيمما .

                                      [ ص: 336 ] فإن قيل ) : إذا كانت الجراحة في وجهه ويده فينبغي أن يجزئه تيمم واحد ، فيغسل صحيح الوجه ثم يتيمم عن جريحه وجريح اليد ثم يغسل صحيح اليد ، فإنه يجوز أن يوالي بين تيممهما فيغسل صحيح الوجه ثم يتيمم عن جريحه ثم يتيمم عن جريح اليد ثم يغسل صحيحهما ، وإذا جاز تيمماهما في وقت فينبغي أن يكفي تيمم واحد لهما ، كما لو تيمم للمرض أو لعدم الماء ، فإنه يكفيه تيمم واحد لكل الأعضاء ، فالجواب : أن التيمم هنا وقع عن بعض الأعضاء في طهارة وجب فيها الترتيب ، فلو جوزنا تيمما واحدا لحصل تطهير الوجه واليد في وقت واحد وهذا لا يجوز ، بخلاف التيمم عن الأعضاء كلها ، فإنه لا ترتيب هناك ، وإن كانت الجراحة في الوجه واليد والرجل غسل صحيح الوجه ، وتيمم عن جريحه ، ثم اليدين كذلك ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل الرجلين وتيمم لجريحهما .

                                      أما إذا عمت الجراحات الأعضاء الأربعة ، فقال القاضي أبو الطيب وغيره : يكفيه تيمم واحد ; لأنه سقط الترتيب لكونه لا يجب غسل شيء من الأعضاء ، قالوا : ولو عمت الرأس وكانت في بعض من كل واحد من الأعضاء الثلاثة وجب غسل صحيح الأعضاء الثلاثة وأربعة تيممات على ما ذكرنا من الترتيب ، والفرق بين الصورتين : أن في الأولى سقط حكم الوضوء وبقي الحكم للتيمم ، وفي الثانية : ترتيب الوضوء باق . قال صاحب البحر : فإذا تيمم في هذه الصورة أربعة تيممات وصلى ثم حضرت فريضة أخرى أعاد التيممات الأربعة ، ولا يلزمه غسل صحيح الوجه ويعيد ما بعده ، وهذا الذي قاله في إعادة غسل ما بعد الوجه هو اختياره ، وسيأتي فيه خلاف للأصحاب إن شاء الله تعالى والله أعلم .

                                      ( فرع ) المتيمم للجراحة لا يلزمه إعادة الصلاة بالاتفاق ; لأنه مما تعم به البلوى ويكثر كالمرض والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا كان في بدنه حبات الجدري إن لم يلحقه ضرر من غسل ما بينها وجب غسله ، وإن لحقه ضرر لم يجب ، ذكره القاضي أبو الطيب وغيره ويكون كالجريح والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا غسل الصحيح وتيمم عن العليل بسبب مرض أو جراحة أو كسر أو نحوها استباح بتيممه فريضة وما شاء من النوافل ، فإذا أراد [ ص: 337 ] فريضة أخرى قبل أن يحدث ، فإن كان جنبا أعاد التيمم دون الغسل بالاتفاق كذا قاله الأصحاب في كل الطرق . وقال الرافعي : في إعادة الغسل خلاف كما في المحدث وهذا ضعيف متروك .

                                      وإن كان محدثا أعاد التيمم ولا يجب على المذهب الصحيح الذي قاله الأكثرون غسل صحيح الأعضاء ; وممن صرح بهذا وقطع به ابن الحداد وصاحب الحاوي وإمام الحرمين والغزالي وصاحب العدة وآخرون ، قال إمام الحرمين : أجمع الأصحاب أنه لا يجب إعادة غسل صحيح الأعضاء ; قال : وهذا وإن كان يتطرق إليه احتمال فهو متفق عليه ، وقال ابن الصباغ : قول ابن الحداد يحتاج إلى تفصيل ، فإن كانت الجراحة في الرجلين أجزأه التيمم ، وإن كانت في الوجه أو اليد فينبغي أن يعيد التيمم وغسل ما بعد موضع الجراحة ; ليحصل الترتيب .

                                      قال الشاشي : قول ابن الحداد أصح وبسط الاستدلال له في المعتمد فقال : لأن ما غسله من صحيح أعضائه ارتفع حدثه ، وناب التيمم عما سواه وسقط فرضه ، فالأمر بإعادة غسله - من غير تجدد حدث - غلط وليس الأمر بالتيمم لكل فريضة ; لبطلان الأول ، بل لأنه طهارة ضرورة ، فأمر به لكل فرض لا لتغير صفة الطهارة ، ولهذا أمرنا المستحاضة بالطهارة لكل فرض ، وإن كان حالها بعد الفرض كحالها قبله ، وقد حصل الترتيب في الغسل وسقط الفرض في الأعضاء مرتبا .

                                      هذا كلام الشاشي . وقال القاضي حسين وصاحبا التتمة والتهذيب : إذا أوجبنا الترتيب وجب إعادة غسل ما بعد العليل ، وفي غسل صحيح العليل وما قبله طريقان أصحهما : لا يجب . والثاني فيه قولان قيل بناء على تفريق الوضوء وقيل على ماسح الخف إذا خلعه . وقال الرافعي : أصح الوجهين وجوب إعادة غسل ما بعد العليل . والصحيح المختار : ما قدمته عن الجمهور والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال البغوي وغيره : إذا كان جنبا والجراحة في غير أعضاء الوضوء فغسل الصحيح وتيمم للجريح ثم أحدث قبل أن يصلي فريضة لزمه الوضوء ولا يلزمه إعادة التيمم ; لأن تيممه عن غير أعضاء الوضوء فلا يؤثر فيه الحدث . ولو صلى فريضة ثم أحدث توضأ للنافلة ولا يتيمم ، وكذا حكم الفرائض والله أعلم . [ ص: 338 ]

                                      ( فرع ) إذا اندملت الجراحة وهو على طهارة فأراد الصلاة فإن كان محدثا ، فعليه غسل محل الجراحة وما بعده بلا خلاف ، وفيما قبله طريقان ، أصحهما وأشهرهما : أنه على القولين في نازع الخف ، أصحهما : لا يجب . والطريق الثاني : القطع بأنه لا يجب ، وإن كان جنبا لزمه غسل محل الجراحة وفي الباقي الطريقان .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : إذا غسل الصحيح وتيمم عن الجريح ، ثم توهم اندمال الجراحة ، فرآها لم تندمل فوجهان . أحدهما : يبطل تيممه كتوهم وجود الماء بعد التيمم وأصحهما - باتفاقهم - لا يبطل لأن طلب الاندمال ليس بواجب ، فلم يبطل بالتوهم بخلاف الماء . هكذا علله الأصحاب قال إمام الحرمين : قولهم لا يجب البحث عن الاندمال عند إمكانه وتعلق الظن به ليس نفيا عن الاحتمال ، أما إذا اندمل الجرح فصلى بعد اندماله صلوات وهو لا يعلم اندماله ، فإنه يلزمه إعادتهن بلا خلاف لتفريطه . كذا صرح بأنه لا خلاف فيه صاحب التتمة وغيره .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور أن الجريح يلزمه غسل الصحيح والتيمم عن الجريح . وهو الصحيح في مذهب أحمد . وعن أبي حنيفة ومالك أنه إن كان أكثر بدنه صحيحا ، اقتصر على غسله ولا يلزمه تيمم ، وإن كان أكثره جريحا كفاه التيمم ولم يلزمه غسل شيء والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية