الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( إن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة ، ولا يعرف عينها ، قضى خمس صلوات ، وفي التيمم وجهان . ( أحدهما : ) يكفيه تيمم واحد ; لأن المنسية واحدة وما سواها ليس بفرض ، ( والثاني ) : يجب لكل واحدة تيمم ; لأنه صار كل واحدة منها فرضا . وإن نسي صلاتين من صلوات اليوم والليلة لزمه خمس صلوات . قال ابن القاص : يجب أن يتيمم لكل واحدة منها ; لأنه أي صلاة بدأ بها يجوز أن تكون هي المنسية فزال بفعلها حكم التيمم ، ويجوز أن تكون الفائتة هي التي تليها ، فلا يجوز أداؤها بتيمم مشكوك فيه . ومن أصحابنا من قال : يجوز أن يصلي ثماني صلوات بتيممين ، فيزيد ثلاث صلوات وينقص ثلاث تيممات فيتيمم ويصلي الصبح والظهر والعصر والمغرب ، ثم يتيمم ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء فيكون قد صلى إحداهما بالتيمم الأول ، والثانية بالثاني .

                                      وإن نسي صلاتين من يومين ، فإن كانتا مختلفتين فهما بمنزلة الصلاتين من يوم وليلة ، وإن كانتا متفقتين لزمه أن يصلي عشر صلوات فيصلي خمس صلوات بتيمم ، ثم يتيمم ويصلي خمس صلوات ، وإن شك هل هما متفقتان ؟ أو مختلفتان ؟ لزمه أن يأخذ بالأشد وهو أنهما متفقتان ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا نسي صلاة من صلوات يوم وليلة لا يعرف عينها لزمه أن يصلي الخمس ، فإن أراد أن يصليها بالتيمم فوجهان مشهوران ، وقد ذكرهما [ ص: 342 ] المصنف بدليلهما .

                                      ( أحدهما ) : يجب لكل واحدة تيمم وهو قول ابن سريج والخضري ، واختاره القفال ، فعلى هذا قال البندنيجي : يجب لكل واحدة طلب الماء ثم التيمم ، ( والثاني ) : يكفيه تيمم واحد لكلهن وهو الصحيح ، وبه قال ابن القاص وابن الحداد وجمهور أصحابنا المتقدمين ، وصححه المصنفون ، ونقله الغزالي في البسيط عن عامة أصحابنا ، ثم قال أبو الحسن بن المرزبان والشيخ أبو علي السنجي : هذا الخلاف مفرع على المذهب وهو أنه لا يشترط تعيين الفريضة في نية التيمم .

                                      فإن قلنا بالوجه الضعيف : إنه يشترط تعيين الفريضة وجب لكل صلاة تيمم بلا خلاف ، واختار الدارمي أن الخلاف جار هنا ، سواء شرطنا التعيين أم لا ، وأشار الرافعي إلى ترجيح هذا وهو الأصح ، أما إذا نسي صلاتين من يوم وليلة فإن قلنا في الواحدة : يلزمه خمس تيممات فهنا أولى ، وإن قلنا بالمذهب : إنه يكفيه تيمم فهو هنا مخير إن شاء عمل بطريقة ابن القاص صاحب التلخيص وهي : أن يتيمم لكل صلاة من الخمس ، وإن شاء عمل بطريقة ابن الحداد وهي : أن يصلي ثماني صلوات بتيممين فيصلي بالأول الصبح والظهر والعصر والمغرب ، وبالثاني الظهر والعصر والمغرب والعشاء فيخرج عما عليه بيقين ; لأنه صلى الظهر والعصر والمغرب مرتين ، فإن كانت الفائتتان في هذه الثلاث فقد تأدت كل واحدة بتيمم ، وإن كانتا الصبح والعشاء حصلت الصبح بالأول والعشاء بالثاني ، وإن كانت إحداهما في الثلاث والأخرى صبحا أو عشاء فكذلك . هكذا صرح الأصحاب بأنه مخير بين طريقتي ابن القاص وابن الحداد ، وحكى الرافعي وجها شاذا : أنه يتيمم مرتين يصلي بكل تيمم الخمس ، وهذا ليس بشيء ، ثم المشهور والمستحسن عند الأصحاب طريقة ابن الحداد ، وعليها يفرعون ولها ضابطان .

                                      ( أحدهما ) : وهو الذي نقله صاحب البيان أن يضرب عدد المنسي في عدد المنسي منه ثم يزيد المنسى على ما حصل من الضرب ويحفظ مبلغ المجتمع ثم يضرب المنسى في نفسه ، فما بلغ نزعه من الجملة المحفوظة ، فما بقي فهو عدد ما يصلي .

                                      وأما عدد التيمم فيقدر المنسى ، مثاله في مسألتنا : تضرب اثنتين في خمسة ، ثم تزيد عدد المنسية فيجتمع اثنا عشر ، ثم تضرب اثنتين في اثنتين ، [ ص: 343 ] فذلك أربعة ، فتنزعها من الاثني عشر تبقى ثمانية . وهو عدد ما يصلي . ويكون بتيممين على عدد المنسيتين .

                                      ( الضابط الثاني ) وهو الذي نقله الرافعي تزيد عدد المنسي منه عددا لا ينقص عما بقي من المنسي منه بعد إسقاط المنسي ، وتقسم المجموع صحيحا على المنسي ، مثاله في مسألتنا : المنسى صلاتان ، والمنسي منه خمس تزيد عليه ثلاثة ; لأنها لا تنقص عما بقي من الخمسة بعد إسقاط الاثنين ، والمجموع وهو ثمانية تنقسم على الاثنين صحيحا .

                                      وأما كيفية أداء الصلوات فابتدئ من المنسي منه بأي صلاة شاء ، ويصلي بكل تيمم مما تقتضيه القسمة ، لكن شرط براءة ذمته بالعدد المذكور أن يترك في المرة ما بدأ به في المرة التي قبلها ، ويأتي بالعدد الذي تقتضيه القسمة . مثاله ما سبق ، فإنه ترك في المرة الثانية الصبح التي بدأ بها في الأولى ، ولو صلى بالتيمم الأول الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وبالثاني الصبح والظهر والعصر والمغرب لم يجزه ، لاحتمال أن المنسيتين العشاء مع الظهر أو مع العصر أو مع المغرب ، فبالتيمم الأول حصلت تلك ولم تحصل العشاء ، وبالتيمم الثاني لم يصل العشاء ، فإن صلى العشاء بعد هذا بالتيمم الثاني أو غيره أجزأه . ولو بدأ فصلى بالتيمم الأول العشاء والمغرب والعصر والظهر وبالثاني المغرب والعصر والظهر والصبح أجزأه ; لأنه وفى بالشرط ، ولو صلى بالأول المغرب والعصر والظهر والصبح ، وبالثاني العشاء والمغرب والعصر والظهر ، لم يجزئه إلا أن يصلي الصبح أيضا بالتيمم الثاني أو بغيره ، ولو خالف الترتيب ووفى بالشرط فصلى بالأول الصبح ثم المغرب ثم العصر ثم الظهر ، وبالثاني العشاء ثم الظهر ثم المغرب ثم العصر أجزأه لحصول المقصود .

                                      هذا كله إذا كان المنسى صلاتين ، أما إذا نسي ثلاث صلوات من يوم وليلة ولا يعرف عينهن ، فعلى طريقة ابن القاص يصلي خمس صلوات كل صلاة بتيمم وعلى الوجه الشاذ الذي حكاه الرافعي : يتيمم ثلاث مرات يصلي بكل تيمم الخمس ، وعلى طريقة ابن الحداد يقتصر على ثلاث تيممات ويصلي تسع صلوات ، فعلى عبارة البيان يضرب ثلاثة في خمسة فذلك خمسة عشر ، ثم يزيد عليه ثلاثة تكون ثمانية عشر ، ثم تضرب ثلاثة في ثلاثة تكون تسعة ، فتنزعها من ثمانية عشر [ ص: 344 ] تبقي تسعة ، وهو عدد ما يصلي بثلاثة تيممات ، فيصلي بالتيمم الأول الصبح والظهر والعصر ، وبالثاني الظهر والعصر والمغرب ، وبالثالث العصر والمغرب والعشاء . وعلى عبارة الرافعي يضم إلى الخمس أربعا ; لأن الأربعة لا تنقص عما بقي من الخمسة بعد إسقاط الثلاثة ، بل يزيد عليه ، وينقسم المجموع وهو تسعة صحيحا على الثلاثة ، ولو ضممنا إلى الخمسة اثنين أو ثلاثة لم ينقسم فيصلي بكل تيمم ثلاثا على ما ذكرنا ، وله أن يرتبها على غير الترتيب المذكور إذا وفى بالشرط السابق ، فإن أخل به بأن صلى بالتيمم الأول العصر ثم الظهر ثم الصبح ، وبالثاني المغرب ثم العصر وبالثالث العشاء ثم المغرب ثم العصر ، لم يجزئه ; لاحتمال أن التي عليه الصبح والعشاء ، وثالثتهما الظهر أو العصر ، فيحصل بالتيمم الأول الظهر أو العصر وبالثالث العشاء ، ويبقى الصبح عليه فيحتاج إلى تيمم رابع يصليها به . وأما إذا نسي أربع صلوات فيضرب أربعة في خمسة ثم يزيد عليه أربعة تبلغ أربعة وعشرين ، ثم يضرب أربعة في أربعة تبلغ ستة عشر ينزعها من أربعة وعشرين تبقى ثمانية ، وهو عدد ما يصلي بأربعة تيممات ، فيصلي بالتيمم الأول الصبح والظهر وبالثاني الظهر والعصر وبالثالث العصر والمغرب وبالرابع المغرب والعشاء ، ولا يخفى بعد ما سبق حكم تقديم بعض الصلوات على بعض وما يجوز منه وما لا يجوز . وعلى هذه التنزيلات ينزل ما زاد من عدد المنسي والمنسى منه .

                                      هذا كله إذا كانت الصلاتان أو الصلوات مختلفات ، سواء كانت من يوم أو يومين بأن قال : نسيت صلاتين مختلفتين من يومين لا أدرى صبح وظهر أم ظهر وعصر أم عصر وعشاء ، وشبه ذلك . أما إذا نسي صلاتين متفقتين بأن قال : هما صبحان أو ظهران أو عصران أو مغربان أو عشاءان فيلزمه عشر صلوات ، هن صلوات يومين ، وفي التيمم الوجهان في أصل المسألة . قول ابن سريج والخضري : يلزمه لكل صلاة تيمم ، وقول الجمهور يكفيه تيممان يصلي بكل واحد الخمس ولا يكفيه ثمان صلوات بالاتفاق لاحتمال أن الذي عليه صبحان أو عشاءان ، وما أتى بهما إلا مرة ، أما إذا شك هل فائتتاه متفقتان أم مختلفتان ؟ فعليه الأغلظ الأحوط ، وهو أنهما متفقتان . [ ص: 345 ]

                                      ( فرع ) لو تيقن أنه ترك أحد أمرين : إما طواف فرض وإما صلاة فرض لزمه أن يأتي بالطواف وبالصلوات الخمس ، فعلى قول الجمهور يكفيه تيمم واحد للجميع ، وعلى قول ابن سريج والخضري يجب ستة تيممات .



                                      ( فرع ) إذا صلى فريضة منفردا بتيمم ثم أدرك جماعة يصلونها فأراد إعادتها بذلك التيمم فيبني على أن الفرض منهما ماذا ؟ وفيه أربعة أوجه . الأصح : الفرض الأولى ، والثاني : الثانية ، والثالث : كلاهما فرض ، والرابع : إحداهما لا بعينها .

                                      فإن قلنا بالأولين جاز ، وإن قلنا بالثالث لم يجز . قاله القاضي حسين وغيره ، وإن قلنا بالرابع فهو على الوجهين في المنسية ، هكذا قال الأصحاب . قال إمام الحرمين : والاكتفاء هنا بتيمم واحد أولى ; فإنه لا يجب الشروع في الثانية بخلاف المنسية .



                                      ( فرع ) إذا صلى الفرض بالتيمم على وجه يجب قضاؤه ، كالمربوط على خشبة والمحبوس في موضع نجس ونحوه فأراد القضاء على وجه كامل بذلك التيمم ، فيبني على أن الفرض ماذا ؟ وفيه أربعة أقوال تقدمت قريبا ، أصحها : الفرض الثانية ، والثاني : الأولى ، والثالث : كلاهما ، والرابع : إحداهما لا بعينها . فإن قلنا : الفرض الأولى جاز ، وإن قلنا : كلاهما فرض لم يجز ، وإن قلنا : إحداهما لا بعينها فعلى الوجهين في المنسية ، وإن قلنا : الثانية فقال الرافعي وغيره لا يجوز وهذا ضعيف ، والمختار : أنه يجوز كما سبق في مثله في الفرع قبله ، ولا فرق بين تقدم نفل على فرض وعكسه ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية