الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 53 ] القول في تأويل قوله تعالى ( قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ( 99 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله : " لم تصدون عن سبيل الله " ، يقول : لم تضلون عن طريق الله ومحجته التي شرعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان " من آمن " ، يقول : من صدق بالله ورسوله وما جاء به من عند الله " تبغونها عوجا " ، يعني : تبغون لها عوجا .

"والهاء والألف " اللتان في قوله : "تبغونها " عائدتان على "السبيل " ، وأنثها لتأنيث "السبيل " .

ومعنى قوله : "تبغون لها عوجا " ، من قول الشاعر ، وهو سحيم عبد بني الحسحاس


بغاك ، وما تبغيه حتى وجدته كأنك قد واعدته أمس موعدا



يعني : طلبك وما تطلبه . يقال : "ابغني كذا " ، يراد : ابتغه لي . فإذا أرادوا أعني على طلبه وابتغه معي قالوا : "أبغني " بفتح الألف . وكذلك يقال : "احلبني " ، بمعنى : اكفني الحلب - "وأحلبني " أعني عليه . وكذلك جميع ما ورد من هذا النوع ، فعلى هذا .

وأما "العوج " فهو الأود والميل . وإنما يعني بذلك : الضلال عن الهدى . [ ص: 54 ]

يقول جل ثناؤه : لم تصدون عن دين الله من صدق الله ورسوله تبغون دين الله اعوجاجا عن سننه واستقامته ؟

وخرج الكلام على "السبيل " ، والمعنى لأهله . كأن المعنى : تبغون لأهل دين الله ، ولمن هو على سبيل الحق ، عوجا يقول : ضلالا عن الحق ، وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة .

"والعوج " بكسر أوله : الأود في الدين والكلام . "والعوج " بفتح أوله : الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم .

وأما قوله : " وأنتم شهداء " . فإنه يعني : شهداء على أن الذي تصدون عنه من السبيل حق ، تعلمونه وتجدونه في كتبكم " وما الله بغافل عما تعملون " ، يقول : ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعملونها مما لا يرضاه لعباده وغير ذلك من أعمالكم ، حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجلة ، أو يؤخر ذلك لكم حتى تلقوه فيجازيكم عليها .

وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله : " يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله " والآيات بعدهما إلى قوله : " وأولئك لهم عذاب عظيم " ، نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيين من الأوس والخزرج بعد الإسلام ، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء . فعنفه الله بفعله ذلك ، وقبح له ما فعل ووبخه عليه ، ووعظ أيضا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف ، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف .

ذكر الرواية بذلك : [ ص: 55 ]

7524 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني الثقة ، عن زيد بن أسلم ، قال : مر شأس بن قيس وكان شيخا قد عسا في الجاهلية ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج ، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه . فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد! لا والله ما لنا معهم ، إذا اجتمع ملأهم بها ، من قرار! فأمر فتى شابا من يهود وكان معه ، فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، وذكرهم يوم بعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار . وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ، ففعل . فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب : أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس - وجبار بن صخر ، أحد بني سلمة من الخزرج . فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة! وغضب الفريقان ، وقالوا : قد فعلنا ، السلاح السلاح!! موعدكم الظاهرة . والظاهرة : الحرة . فخرجوا إليها . وتحاوز الناس . فانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، [ ص: 56 ] والخزرج بعضها إلى بعض ، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم ، فقال : "يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح من أيديهم ، وبكوا ، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس وما صنع . فأنزل الله في شأس بن قيس وما صنع : " قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا " الآية . وأنزل الله عز وجل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس بن قيس من أمر الجاهلية : " يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين " إلى قوله : " وأولئك لهم عذاب عظيم " . [ ص: 57 ]

وقيل : إنه عنى بقوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله " ، جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام نزلت هذه الآيات ، والنصارى وأن صدهم عن سبيل الله كان بإخبارهم من سألهم عن أمر نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم : هل يجدون ذكره في كتبهم ؟ . أنهم لا يجدون نعته في كتبهم .

ذكر من قال ذلك :

7525 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا " ، كانوا إذا سألهم أحد : هل تجدون محمدا ؟ قالوا : لا! فصدوا عنه الناس ، وبغوا محمدا عوجا : هلاكا .

7526 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله " ، يقول : لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله ، من آمن بالله ، وأنتم شهداء فيما تقرأون من كتاب الله : أن محمدا رسول الله ، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل .

7527 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، نحوه .

7528 - حدثنا محمد بن سنان قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : " قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله " ، قال : هم اليهود والنصارى ، نهاهم أن يصدوا المسلمين عن سبيل الله ، ويريدون أن يعدلوا الناس إلى الضلالة .

قال أبو جعفر : فتأويل الآية على ما قاله السدي : يا معشر اليهود ، لم [ ص: 58 ] تصدون عن محمد ، وتمنعون من اتباعه المؤمنين به ، بكتمانكم صفته التي تجدونها في كتبكم ؟ . و"محمد " على هذا القول : هو "السبيل " ، " تبغونها عوجا " ، تبغون محمدا هلاكا . وأما سائر الروايات غيره والأقوال في ذلك ، فإنه نحو التأويل الذي بيناه قبل : من أن معنى "السبيل " التي ذكرها في هذا الموضع : الإسلام ، وما جاء به محمد من الحق من عند الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية