الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين

عطف على جملة ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الآية ، والمقصود : التنويه بالمسلمين في هديهم واهتدائهم ، وذلك مقابلة لحال المشركين في ضلالهم ، أي أعرض عن المشركين فإن الله أغناك عنهم بالمسلمين ، فماصدق الأمة هم المسلمون بقرينة السياق كما في قول لبيد :

تراك أمكنة إذا لم أرضهـا أو يعتلق بعض النفوس حمامها



يريد نفسه فإنها بعض النفوس . روى الطبري عن قتادة قال : بلغنا أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا قرأ الآية " هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها " .

وقوله ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون . وبقية ألفاظ الآية عرف تفسيرها من نظره المتقدمة في هذه السورة .

[ ص: 191 ] والذين كذبوا بالآيات هم المشركون الذين كذبوا بالقرآن . وقد تقدم وجه تعدية فعل التكذيب بالباء ليدل على معنى الإنكار عند قوله - تعالى - قل إني على بينة من ربي وكذبتم به في سورة الأنعام .

والاستدراج مشتق من الدرجة بفتحتين وهي طبقة من البناء مرتفعة من الأرض بقدر ما ترتفع الرجل للارتقاء منها إلى ما فوقها تيسيرا للصعود في مثل العلو أو الصومعة أو البرج ، وهي أيضا واحدة الأعواد المصفوفة في السلم يرتقى منها إلى التي فوقها ، وتسمى هذه الدرجة مرقاة ، فالسين والتاء في فعل الاستدراج للطلب ، أي طلب منه أن يتدرج ، أي صاعدا أو نازلا ، والكلام تمثيل لحال القاصد إبدال حال أحد إلى غيرها بدون إشعاره ، بحال من يطلب من غيره أن ينزل من درجة إلى أخرى بحيث ينتهي إلى المكان الذي لا يستطيع الوصول إليه بدون ذلك ، وهو تمثيل بديع يشتمل على تشبيهات كثيرة ، فإنه مبني على تشبيه حسن الحال برفعة المكان وضده بسفالة المكان ، والقرينة تعين المقصود من انتقال إلى حال أحسن أو أسوأ .

ومما يشير إلى مراعاة هذا التمثيل في الآية قوله - تعالى - من حيث لا يعلمون ولما تضمن الاستدراج معنى الإيصال إلى المقصود علق بفعله مجرور بمن الابتدائية أي مبتدئا استدراجهم من مكان لا يعلمون أنه مفض بهم إلى المبلغ الضار ، ف حيث هنا للمكان على أصلها ، أي من مكان لا يعلمون ما يفضي إليه ، وحذف مفعول يعلمون لدلالة الاستدراج عليه ، والتقدير لا يعلمون تدرجه ، وهذا مؤذن بأنه استدراج عظيم لا يظن بالمفعول به أن يتفطن له .

والإملاء إفعال وهو الإمهال ، وهمزة هذا المصدر منقلبة عن واو ، مشتق من الملاوة مثلثة الميم وهي مدة الحياة ، يقال أملاه وملاه إذا أمهله وأخره ، كلاهما بالألف دون همز فهو قريب من معنى عمره ، ولذلك يقال في الدعاء بالحياة : ملاك الله .

واللام في قوله لهم هي اللام التي تسمى : لام التبيين ، ولها استعمالات كثيرة فيها خفاء ومرجعها : إلى أنها يقصد منها تبيين اتصال مدخولها بعامله لخفاء في ذلك الاتصال ، فإن اشتقاق أملى من الملو اشتقاق غير مكين لأن المشتق [ ص: 192 ] منه ليس فيه معنى الحدث فلم يجئ منه فعل مجرد فاحتيج إلى اللام لتبيين تعلق المفعول بفعله .

وأما قولهم أملى للبعير بمعنى أطال له في طوله في المرعى فهو جاء من هذا المعنى بضرب من المجاز أو الاستعارة .

فجملة إن كيدي متين في موضع العلة للجملتين قبلها ، فإن الاستدراج والإملاء ضرب من الكيد ، وكيد الله متين أي قوي لا انفلات منه للمكيد .

وموقع إن هنا موقع التفريع والتعليل ، كما قال عبد القاهر : إنها تغني في مثل هذا الموقع غناء الفاء ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله - تعالى - إن أول بيت وضع للناس في سورة آل عمران ، أي : يكون ذلك الاستدراج وذلك الإملاء بالغين ما أردناه بهم لأن كيدي قوي .

ولما كان أملي معطوفا على سنستدرجهم ، فهو مشارك له في الدخول تحت حكم الاستقبال ، أي : وسأملي لهم .

والمغايرة بين فعلي نستدرج وأملي في كون ثانيهما بهمزة المتكلم ، وأولهما بنون العظمة مغايرة اقتضتها الفصاحة من جهة ثقل الهمزة بين حرفين متماثلين في النطق في سنستدرجهم وللتفنن والاكتفاء بحصول معنى التعظيم الأول .

و الكيد لم يضبط تحديد معناه في كتب اللغة ، وظاهرها أنه يرادف المكر والحيلة ، وقال الراغب ضرب من الاحتيال ، وقد يكون مذموما وممدوحا وإن كان يستعمل في المذموم أكثر وهو يقتضي أن الكيد أخص من الاحتيال وما ذلك إلا لأنه غلب استعماله في الاحتيال على تحصيل ما لو اطلع عليه المكيد لاحترز منه ، فهو احتيال فيه مضرة ما على المفعول به ، فمراد الراغب بالمذموم المذموم عند المكيد لا في نفس الأمر . وقال ابن كمال باشا : الكيد الأخذ على خفاء ولا يعتبر فيه إظهار الكائد خلاف ما يبطنه .

ويتحصل من هذه التدقيقات : أن الكيد أخص من الحيلة ومن الاستدراج .

ووقوع جملة إن كيدي متين موقع التعليل يقتضي أن استدراجهم والإملاء لهم كيد ، فيفيد أنه استدراج إلى ما يكرهونه وتأجيل لهم إلى حلول ما يكرهونه [ ص: 193 ] لأن مضمون الجملة الثانية على هذا شامل لمضمون الجملة السابقة مع زيادة الوصف ، المتين ، ما لو حمل الكيد على معنى الأخذ على خفاء بقطع النظر عن إظهار خلاف ما يخفيه فإن جملة إن كيدي متين لا تفيد إلا تعليل الاستدراج والإملاء بأنهما من فعل من يأخذ على خفاء دون تلوين أخذه بما يغر المأخوذ ، فكأنه قال سنستدرجهم من حيث لا يعلمون كائدين لهم ، إن كيدي متين .

وإطلاقه هنا جاء على طريقة التمثيلية بتشبيه الحال التي يستدرج الله بها المكذبين مع تأخير العذاب عنهم إلى أمد هم بالغوه ، بحال من يهيئ أخذا لعدوه مع إظهار المصانعة والمحاسنة ليزيد عدوه غرورا ، وليكون وقوع ضر الأخذ به أشد وأبعد عن الاستعداد لتلقيه .

والمتين القوي ، وحقيقته القوي المتن أي الظهر ، لأن قوة متنه تمكنه من الأعمال الشديدة ، ومتن كل شيء عموده وما يتماسك به .

التالي السابق


الخدمات العلمية