الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ فصل ]

        804 - نقل النقلة في مأثور الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " تعلموا الفرائض ، وعلموها الناس ، فإنها تنسى ، وهو أول علم [ ص: 505 ] ينزع من أمتي " والعلم بالفرائض في هذا الزمان غض طري والحمد لله . وفحوى الحديث مبشرة ببقاء علوم الشريعة في عصرنا فإنه قال إن علم الفرائض أول ما ينزع من أمتي .

        805 - فلو أعضلت تفاصيل الفرائض ، وهذا [ يعسر ] مع بقاء الذكر في الأصول ، فإن [ فرض ] دروس في التفاصيل ، فالذي يتعلق بمساق الكلام الذي نجريه صنفان :

        806 - أحدهما - فيه إذا مات رجل وخلف مختصين به ، وعلم أنهم ورثة ، ولكن أشكل مقدار ما يستحقه كل واحد ، فالذي تقتضيه القاعدة الكلية ، أنهم إذا اصطلحوا وتراضوا على أمر ، نفذ ما تراضوا به .

        وإن أبوا وتمانعوا ، فالوجه التسوية بينهم ، فإنهم مع التباس الحال متساوون ، ولا مطمع في ارتفاع اللبس مع انقراض العلماء [ ص: 506 ] ولا وجه لتبقية النزاع بينهم ، مع مسيس حاجتهم فاقتضى مجموع ذلك التسوية .

        ونحن نضرب لذلك مثلا من تفاصيل الشرع للإيناس والتشبيه بحال الالتباس ، فنقول :

        807 - لو أبهم الرجل طلقة مبينة بين نسوة له ، ومات قبل البيان ، فإنا نقف لهن ميراث زوجة ثم سبيلهن فيما وقف لهن ما ذكرناه ، من الاصطلاح أو التسوية ( 267 ) وهذا يناظر ما نحن فيه من التباس الأمر .

        808 - ومما يتصل بهذا أن الرجل إذا مات وخلف طائفة من الأقارب ، وجوزوا أن يكون فيهم محجوبون ، وقدر كل واحد ذلك في نفسه ، واستووا في هذا التردد ، وتحققوا أنهم المستحقون ، أو فيهم المستحقون ، فالذي تقتضيه القاعدة الاصطلاح ، أو التسوية كما سبق تقريره . فهذا أحد الصنفين .

        809 - وأما الصنف الثاني ، فهو أن يكون فيهم من نعلم أنه [ ص: 507 ] من المستحقين ، وفيهم من نشك في أنه مستحق أم لا فمن لا يعلم قطعا لنفسه استحقاقا لا نثبت له شيئا من غير دليل يقتضيه .

        فالذي نعلم كونه مستحقا إن علم قطعا أنه يستحق النصف وشك في أنه هل يستحق النصف الباقي أم يستحق الرجل المشكوك فيه ؟ فالذي نستيقن استحقاقه يأخذه هو وصاحبه في الباقي متساويان ، والاستحقاق لا يعدوهما ، فيشتركان فيه كما سبق ذكره في أصل الاستحقاق .

        ولو لم يدر من يعلم أصل الاستحقاق أن المقدار المستيقن كم ; فيجوز أن يكون أقل القليل ، وجوز أن يثبت له استحقاق الجميع على الاستغراق ، وكان قد درست الفرائض والمقدرات ، فلا يمكن أن يسلم إليه شيء ، إذ لا مقدار إلا ويجوز أن يكون المستيقن أقل منه فجميع المال بينهما على الحكم المقدم فيه إذا كان كل واحد منهما يجوز أن يكون هو المستحق لجميع التركة .

        810 - ولو خلف قريبا ، وجوز أهل الزمان أن يكون وارثا مستغرقا ، وجوزوا أن يكون المال مصروفا إلى مصالح المسلمين ، [ ص: 508 ] فهذه الجهة مع الوارث بمثابة قريبين التبس الوارث منهما ، فلتجر هذه المسائل على ( 268 ) قاعدتين :

        إحداهما - طلب الاستيقان . والأخرى - [ أن ] الاستحقاق إذا دار بين شخصين أو أشخاص وكان لا يعدوهم الاستحقاق ، واستووا في جهات الإمكان فالمال بينهم على البيان المقدم .

        811 - ونحن نختم هذا الفصل الآن بمشكلة عجيبة ، ومعضلة غريبة ، نوردها في معرض السؤال ، ونبين الغرض [ منها ] في معرض الانفصال .

        فإن قيل : قد بنيتم فصول الكلام في هذه المرتبة على مستندات مستيقنة ، وكررتم غير مرة أن الظنون لا يرتبط في خلو الدهر عن حملة الشريعة حكم ، فإن ظنون من ليس من أحزاب العلماء لا وقع لها ، وصرتم إلى أنه لا يثبت شيء إلا بقطع ، وقد ناقضتم الآن ما هو قطب الكلام ، وقاعدة المرام ، إذ قلتم إذا دارت التركة المخلفة بين اثنين وجوز كل واحد منهما أن يكون مستحقا مستغرقا وجوز أن يكون محجوبا مزحوما محروما ، فالتركة بينهما ، وليس [ ص: 509 ] واحد منهما على استيقان في الاستحقاق .

        812 - فهلا قلتم بناء على اليقين : لا يأخذ واحد منهما شيئا من التركة ؟ من حيث لا يركن إلى قطع في الاستحقاق ، وبناء الأمر على استوائهما ، وإشعار ذلك بتوزيع التركة عليهما من أدق مسالك الظنون ، وأغمض فنون المجتهدات في الدعاوى والبينات ، وغيرهما من المشكلات ، ولا يستقل به إلا فطن ريان من علوم التفاصيل في التكاليف .

        والمرتبة الثالثة مبناها على دروس العلم بفروع الشريعة وفصولها مع بقاء قواعدها وأصولها ؟ فهذا هو السؤال .

        813 - وسبيل الانفصال عنه أن نعترف أولا بانتفاء اليقين كما أوضحه السائل ، ثم نعترف بأن واحدا من الرجلين غير مستيقن استحقاق ( 269 ) نفسه ، ولكنا نقول :

        814 - من الأصول التي آل إليه مجامع الكلام أنه : إذا لم يستيقن حجر وحظر من الشارع في شيء ، فلا يثبت فيه تحريم في [ ص: 510 ] خلو الزمان ، فإن لم يستيقن واحد منهما استحقاقا ، فليس نعلم أيضا حجرا عليه فيما يأخذه ، وقد تحققنا أن الاستحقاق لا يعدوهما ، فعدم الاستيقان في الاستحقاق يعارضه انتفاء الدليل في الحظر ، وموجب ذلك رفع الحجر والحرج .

        فإن اقتسما على اصطلاح وتراض ، فلا إشكال في انتفاء الحرج عنهما ، وإن تنازعا والنزاع مقطوع في أصل الشريعة - فلا مسلك قطعا في قطعه إلا ما ذكرناه .

        فلينعم المنتهي إلى هذا المنتهى نظره ، ففيه بيان بقايا تركتها لكل غواص منته ، ونتائج القرائح لا تنتهي .

        815 - فإن قيل : لا يتوصل إلى هذه الدقائق إلا مدرب في مأخذ الحقائق ، فكيف يدركه بنو الزمان الشاغر عن علماء الشريعة ؟

        قلنا : إن ثبت أن ما ذكرناه مستنده القطع ، فعلى أهل الزمان بذل المجهود في دركه ، فإذا فرضنا بقاء أصول الشريعة ، [ ص: 511 ] فمن أجلاها علم بني الزمان بأن ما يتصور الوصول إلى الاستيقان فيه في الشريعة ، فيتعين التوصل إليه .

        816 - ورب شيء مدركه القطع ، وفي دركه عسر وعناء ، وهذا كالقول في قواعد العقائد ، فإنا إذا أوجبنا العلم بها فقد يدق مدركها ، ويتوعر مسلكها ، ولكنها إذا كانت مستدركة بأساليب العقول تعين السعي في إدراكها .

        817 - فهذا نهاية المقصود في المكاسب . ومن أحاط بها ، لم يخف عليه مسلك يطالع به ، ويراجع فيه في جهات المطالب ، وفنون المكاسب .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية