الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولو كان ما في المصحف عبارة عن كلام الله ، وليس هو كلام الله ، لما حرم على الجنب والمحدث مسه ، ولو كان ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث قراءته .

بل كلام الله محفوظ في الصدور ، مقروء بالألسن ، مكتوب في المصاحف ، كما قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر . وهو في هذه المواضع كلها حقيقة ، وإذا قيل : فيه خط فلان وكتابته : فهم منه معنى صحيح حقيقي ، وإذا قيل : فيه مداد قد كتب به : فهم منه معنى صحيح حقيقي ، وإذا قيل : المداد في المصحف : كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل : فيه السماوات والأرض ، وفيه محمد وعيسى ، ونحو ذلك . وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل : [ ص: 191 ] فيه خط فلان الكاتب ، وهذه المعاني الثلاثة مغايرة لمعنى قول القائل : فيه كلام الله . ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب . وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ ، والمقروء الذي هو قول الباري ، من لم يهتد له فهو ضال أيضا ، ولو أن إنسانا وجد في ورقة مكتوبا

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

من خط كاتب معروف . لقال : هذا من كلام لبيد حقيقة ، وهذا خط فلان حقيقة ، وهذا كل شيء حقيقة ، وهذا خبر حقيقة ، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى .

والقرآن في الأصل : مصدر ، فتارة يذكر ويراد به القراءة ، قال تعالى : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ( الإسراء : 78 ) . [ ص: 192 ] وقال صلى الله عليه وسلم : زينوا القرآن بأصواتكم . وتارة يذكر ويراد به المقروء ، قال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ( النحل : 98 ) . وقال تعالى : وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ( الأعراف : 204 ) . وقال صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على [ ص: 193 ] كل من المعنيين المذكورين . فالحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي ، ولكن الأعيان تعلم ، ثم تذكر ، ثم تكتب . فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة . وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة ، بل هو الذي يكتب بلا واسطة ولا لسان .

والفرق بين كونه في زبر الأولين ، وبين كونه في رق منشور ، أو في كتاب مكنون : واضح .

فقوله عن القرآن : وإنه لفي زبر الأولين ( الشعراء : 196 ) ، أي ذكره ووصفه والإخبار عنه ، كما أن محمدا مكتوب عندهم . إذ القرآن أنزله الله على محمد ، لم ينزله على غيره أصلا ، ولهذا قال في الزبر ، ولم يقل في الصحف ، ولا في الرق ، لأن الزبر جمع زبور والزبر هو : الكتابة والجمع ، فقوله : وإنه لفي زبر الأولين ( الشعراء : 196 ) أي : مزبور الأولين ، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد ، ويبين كمال بيان القرآن وخلوصه من اللبس . وهذا مثل قوله : الذي يجدونه مكتوبا عندهم ( الأعراف : 156 ) ، أي : ذكره ، بخلاف قوله . في رق منشور ( الطور : 3 ) و لوح محفوظ ( البروج : 22 ) و كتاب مكنون ( الواقعة : 78 ) ، لأن العامل في الظرف إما أن يكون من الأفعال العامة ، مثل الكون والاستقرار والحصول ونحو ذلك ، أو يقدر : مكتوب في كتاب ، أو في رق . [ ص: 194 ] والكتاب : تارة يذكر ويراد به محل الكتابة ، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب . ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتاب ، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج فيه - فإن تلك إنما يكتب ذكرها . وكلما تدبر الإنسان هذا المعنى وضح له الفرق .

وحقيقة كلام الله تعالى الخارجية : هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه ، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه . فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو ، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم . وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه . والمجاز يصح نفيه ، فلا يجوز أن يقال : ليس في المصحف كلام الله ، ولا : ما قرأ القارئ كلام الله ، وقد قال تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ( التوبة : 6 ) . وهو لا يسمع كلام الله من الله ، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله . والآية تدل على فساد قول من قال : إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله ، فإنه تعالى قال : حتى يسمع كلام الله ( التوبة : 6 ) ، ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله . والأصل الحقيقة . ومن قال : إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله ، أو حكاية كلام الله ، وليس فيها كلام الله : فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة ، وكفى بذلك ضلالا .

وكلام الطحاوي رحمه الله يرد قول من قال أنه معنى واحد [ ص: 195 ] لا يتصور سماعه منه ، وأن المسموع المنزل المقروء والمكتوب ليس كلام الله ، وإنما هو عبارة عنه . فإن الطحاوي رحمه الله يقول : كلام الله منه بدا . وكذلك قال غيره من السلف ، ويقولون : منه بدا ، وإليه يعود . وإنما قالوا : منه بدا ، لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون إنه خلق الكلام في محل ، فبدأ الكلام من ذلك المحل . فقال السلف : منه بدا أي هو المتكلم به ، فمنه بدا ، لا من بعض المخلوقات ، كما قال تعالى : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ( الزمر : 1 ) . ولكن حق القول مني ( السجدة : 13 ) . قل نزله روح القدس من ربك بالحق ( النحل : 102 ) . ومعنى قولهم : وإليه يعود - : يرفع من الصدور والمصاحف ، فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف . كما جاء ذلك في عدة آثار .

التالي السابق


الخدمات العلمية