الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون ( 74 ) )

يقول تعالى توبيخا لبني إسرائيل ، وتقريعا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى ، وإحيائه الموتى : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) كله ( فهي كالحجارة ) التي لا تلين أبدا . ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) [ الحديد : 16 ] .

وقال العوفي ، في تفسيره ، عن ابن عباس : لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط ، فقيل له : من قتلك ؟ فقال : بنو أخي قتلوني . ثم قبض . فقال بنو أخيه حين قبض : والله ما قتلناه ، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا . فقال الله : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) يعني : بني أخي الشيخ ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة ، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية بالأنهار ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ، وإن لم يكن جاريا ، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله ، وفيه إدراك لذلك بحسبه ، كما قال : ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ) [ الإسراء : 44 ] .

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه كان يقول : كل حجر يتفجر منه الماء ، أو يتشقق عن ماء ، أو يتردى من رأس جبل ، لمن خشية الله ، نزل بذلك القرآن .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق ( وما الله بغافل عما تعملون )

[ وقال أبو علي الجبائي في تفسيره : ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) هو سقوط البرد من

[ ص: 305 ] السحاب . قال القاضي الباقلاني : وهذا تأويل بعيد ، وتبعه في استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما قالا ; فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل ، والله أعلم ] .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي ، حدثني يحيى بن أبي طالب يعني يحيى بن يعقوب في قوله تعالى : ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) قال : هو كثرة البكاء ( وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ) قال : قليل البكاء ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) قال : بكاء القلب ، من غير دموع العين .

وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز ; وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله : ( يريد أن ينقض ) قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة : ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ) الآية ، وقال : ( والنجم والشجر يسجدان ) و ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله ) الآية ، ( قالتا أتينا طائعين ) ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ) الآية ، ( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله ) الآية ، وفي الصحيح : " هذا جبل يحبنا ونحبه " ، وكحنين الجذع المتواتر خبره ، وفي صحيح مسلم : " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن " وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة ، وغير ذلك مما في معناه . وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير ; أي مثلا لهذا وهذا ، وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين . . وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر : إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزا أو تمرا ، وهو يعلم أيهما أكل ، وقال آخر : إنها بمعنى قول القائل : كل حلوا أو حامضا ; أي لا يخرج عن واحد منهما ; أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين . والله أعلم .

تنبيه :

اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى : ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) بعد الإجماع على استحالة كونها للشك ، فقال بعضهم : " أو " هاهنا بمعنى الواو ، تقديره : فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى : ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) [ الإنسان : 24 ] ، وكما قال النابغة الذبياني :


قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد



تريد : ونصفه ، قاله ابن جرير . وقال جرير بن عطية :


نال الخلافة أو كانت له قدرا     كما أتى ربه موسى على قدر



قال ابن جرير : يعني نال الخلافة ، وكانت له قدرا .

وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قولا آخر وهو : أنها للإبهام وبالنسبة إلى المخاطب ، كقول القائل : أكلت خبزا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل ، وقولا آخر وهو أنها بمعنى قول القائل : أكلي حلو أو حامض ، أي : لا يخرج عن واحد منهما ، أي : وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم .

وقال آخرون : " أو " هاهنا بمعنى بل ، تقديره فهي كالحجارة بل أشد قسوة ، وكقوله : ( إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ) [ النساء : 77 ] ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) [ الصافات : 147 ] ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) [ النجم : 9 ] وقال آخرون : معنى ذلك ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) عندكم . حكاه ابن جرير .

وقال آخرون : المراد بذلك الإبهام على المخاطب ، كما قال أبو الأسود :

[ ص: 306 ]

أحب محمدا حبا شديدا     وعباسا وحمزة والوصيا
فإن يك حبهم رشدا أصبه     ولست بمخطئ إن كان غيا



قال ابن جرير : قالوا : ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد ، ولكنه أبهم على من خاطبه ، قال : وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له : شككت ؟ فقال : كلا والله . ثم انتزع بقول الله تعالى : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) فقال : أوكان شاكا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال ؟

وقال بعضهم : معنى ذلك : فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين ، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة .

قال ابن جرير : ومعنى ذلك على هذا التأويل : فبعضها كالحجارة قسوة ، وبعضها أشد قسوة من الحجارة . وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره .

قلت : وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ) [ البقرة : 17 ] مع قوله : ( أو كصيب من السماء ) [ البقرة : 19 ] وكقوله : ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ) [ النور : 39 ] مع قوله : ( أو كظلمات في بحر لجي ) [ النور : 40 ] ، الآية أي : إن منهم من هو هكذا ، ومنهم من هو هكذا ، والله أعلم .

قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أيوب ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي " .

رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه ، عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، صاحب الإمام أحمد ، به . ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب ، به ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم .

[ وروى البزار عن أنس مرفوعا : " أربع من الشقاء : جمود العين ، وقسي القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا " ] . .

التالي السابق


الخدمات العلمية