الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب

      التالي السابق


      ش قوله : وجوه يومئذ ناضرة . . إلخ ؛ هذه الآيات تثبت رؤية المؤمنين لله عز وجل يوم القيامة في الجنة .

      وقد نفاها المعتزلة ؛ بناء على نفيهم الجهة عن الله ؛ لأن المرئي يجب أن يكون في جهة من الرائي ، وما دامت الجهة مستحيلة ، وهي شرط في الرؤية ؛ فالرؤية كذلك مستحيلة .

      واحتجوا من النقل بقوله تعالى : لا تدركه الأبصار ، وقوله لموسى عليه السلام حين سأله الرؤية : لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني .

      وأما الأشاعرة ؛ فهم مع نفيهم الجهة كالمعتزلة يثبتون الرؤية ، ولذلك حاروا في تفسير تلك الرؤية ، فمنهم من قال : يرونه من جميع الجهات ، ومنهم من جعلها رؤية بالبصيرة لا بالبصر ، وقال : المقصود زيادة الانكشاف والتجلي حتى كأنها رؤية عين .

      وهذه الآيات التي أوردها المؤلف حجة على المعتزلة في نفيهم الرؤية ؛ فإن الآية الأولى عدي النظر فيها بـ ( إلى ) ، فيكون بمعنى [ ص: 190 ] الإبصار ؛ يقال : نظرت إليه وأبصرته بمعنى ، ومتعلق النظر هو الرب جل شأنه .

      وأما ما يتكلفه المعتزلة من جعلهم ( ناظرة ) بمعنى منتظرة ، و ( إلى ) بمعنى النعمة ، والتقدير : ثواب ربها منتظرة ؛ فهو تأويل مضحك .

      وأما الآية الثانية ؛ فتفيد أن أهل الجنة ، وهم على أرائكهم يعني أسرتهم ، جمع أريكة ينظرون إلى ربهم .

      وأما الآيتان الأخيرتان ؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله عز وجل .

      ويشهد لذلك أيضا قوله تعالى في حق الكفار : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، فدل حجب هؤلاء على أن أولياءه يرونه .

      وأحاديث الرؤية متواترة في هذا المعنى عند أهل العلم بالحديث ، لا ينكرها إلا ملحد زنديق .

      وأما ما احتج به المعتزلة من قوله تعالى : لا تدركه الأبصار ؛ فلا حجة لهم فيه ؛ لأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية ، فالمراد أن [ ص: 191 ] الأبصار تراه ، ولكن لا تحيط به رؤية ؛ كما أن العقول تعلمه ولكن لا تحيط به علما ؛ لأن الإدراك هو الرؤية على جهة الإحاطة ، فهو رؤية خاصة ، ونفي الخاص لا يستلزم نفي مطلق الرؤية .

      وكذلك استدلالهم على نفي الرؤية بقوله تعالى لموسى عليه السلام : ( لن تراني ) لا يصلح دليلا ، بل الآية تدل على الرؤية من وجوه كثيرة ؛ منها :

      1 - وقوع السؤال من موسى ، وهو رسول الله وكليمه ، وهو أعلم بما يستحيل في حق الله من هؤلاء المعتزلة ، فلو كانت الرؤية ممتنعة لما طلبها .

      2 - أن الله عز وجل علق الرؤية على استقرار الجبل حال التجلي وهو ممكن ، والمعلق على الممكن ممكن .

      3 - أن الله تجلى للجبل بالفعل ، وهو جماد ، فلا يمتنع إذا أن يتجلى لأهل محبته وأصفيائه .

      وأما قولهم : إن ( لن ) ، لتأبيد النفي ، وإنها تدل على عدم وقوع الرؤية أصلا فهو كذب على اللغة فقد قال تعالى حكاية عن الكفار : ولن يتمنوه أبدا ، ثم قال : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك ، فأخبر عن عدم تمنيهم للموت بـ ( لن ) ، ثم أخبر عن تمنيهم له وهم في النار .

      [ ص: 192 ] وإذا ؛ فمعنى قوله : ( لن تراني ) : لن تستطيع رؤيتي في الدنيا ؛ لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته سبحانه ، ولو كانت الرؤية ممتنعة لذاتها ؛ لقال : إني لا أرى ، أو لا يجوز رؤيتي ، أو لست بمرئي . . ونحو ذلك ، والله أعلم .



      إن الناظر في آيات الصفات التي ساقها المؤلف رحمه الله يستطيع أن يستنبط منها قواعد وأصولا هامة يجب الرجوع إليها في هذا الباب :

      الأصل الأول : اتفق السلف على أنه يجب الإيمان بجميع الأسماء الحسنى ، وما دلت عليه من الصفات ، وما ينشأ عنها من الأفعال .

      مثال ذلك القدرة مثلا ، يجب الإيمان بأنه سبحانه على كل شيء قدير ، والإيمان بكمال قدرته ، والإيمان بأن قدرته نشأت عنها جميع الكائنات . . وهكذا بقية الأسماء الحسنى على هذا النمط .

      وعلى هذا ؛ فما ورد في هذه الآيات التي ساقها المصنف من الأسماء الحسنى ؛ فإنها داخلة في الإيمان بالاسم .

      وما فيها من ذكر الصفات ؛ مثل : عزة الله ، وقدرته ، وعلمه ، وحكمته ، وإرادته ، ومشيئته ، فإنها داخلة في الإيمان بالصفات .

      وما فيها من ذكر الأفعال المطلقة والمقيدة ، مثل : يعلم كذا ، ويحكم ما يريد ، ويرى ، ويسمع ، وينادي ، ويناجي ، وكلم ، ويكلم ؛ فإنها داخلة في الإيمان بالأفعال .

      [ ص: 193 ] الأصل الثاني : دلت هذه النصوص القرآنية على أن صفات الباري قسمان :

      1 - صفات ذاتية لا تنفك عنها الذات ، بل هي لازمة لها أزلا وأبدا ، ولا تتعلق بها مشيئته تعالى وقدرته ، وذلك كصفات : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والقوة ، والعزة ، والملك ، والعظمة ، والكبرياء ، والمجد ، والجلال . . إلخ .

      2 - صفات فعلية تتعلق بها مشيئته وقدرته كل وقت وآن ، وتحدث بمشيئته وقدرته آحاد تلك الصفات من الأفعال ، وإن كان هو لم يزل موصوفا بها ، بمعنى أن نوعها قديم ، وأفرادها حادثة ، فهو سبحانه لم يزل فعالا لما يريد ، ولم يزل ولا يزال يقول ويتكلم ويخلق ويدبر الأمور ، وأفعاله تقع شيئا فشيئا ، تبعا لحكمته وإرادته .

      فعلى المؤمن الإيمان بكل ما نسبه الله لنفسه من الأفعال المتعلقة بذاته ؛ كالاستواء على العرش ، والمجيء ، والإتيان ، والنزول إلى السماء الدنيا ، والضحك ، والرضى ، والغضب ، والكراهية ، والمحبة ، والمتعلقة بخلقه ؛ كالخلق ، والرزق ، والإحياء ، والإماتة ، وأنواع التدبير المختلفة .

      الأصل الثالث : إثبات تفرد الرب جل شأنه بكل صفة كمال ، وأنه ليس له شريك أو مثيل في شيء منها .

      وما ورد في الآيات السابقة من إثبات المثل الأعلى له وحده ، ونفي الند والمثل والكفء والسمي والشريك عنه يدل على ذلك ؛ كما يدل على أنه منزه عن كل نقص وعيب وآفة .

      [ ص: 194 ] الأصل الرابع : إثبات جميع ما ورد به الكتاب والسنة من الصفات ، لا فرق بين الذاتية منها ؛ كالعلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر ونحوها ، والفعلية ؛ كالرضا والمحبة والغضب والكراهة ، وكذلك لا فرق بين إثبات الوجه واليدين ونحوهما ، وبين الاستواء على العرش والنزول ، فكلها مما اتفق السلف على إثباته بلا تأويل ولا تعطيل ، وبلا تشبيه وتمثيل .

      والمخالف في هذا الأصل فريقان :

      1 - الجهمية : ينفون الأسماء والصفات جميعا .

      2 - المعتزلة : فإنهم ينفون جميع الصفات ، ويثبتون الأسماء والأحكام ، فيقولون : عليم بلا علم ، وقدير بلا قدرة ، وحي بلا حياة . . إلخ .

      وهذا القول في غاية الفساد ؛ فإن إثبات موصوف بلا صفة ، وإثبات ما للصفة للذات المجردة محال في العقل ؛ كما هو باطل في الشرع .

      أما الأشعرية ومن تبعهم ؛ فإنهم يوافقون أهل السنة في إثبات سبع صفات يسمونها صفات المعاني ، ويدعون ثبوتها بالعقل ، وهي : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، والسمع ، والبصر ، والكلام .

      ولكنهم وافقوا المعتزلة في نفي ما عدا هذه السبع من الصفات الخبرية التي صح بها الخبر .

      [ ص: 195 ] والكل محجوجون بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقرون المفضلة على الإثبات العام .




      الخدمات العلمية