الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( المسألة الرابعة ) مقتضى ما تقدم من أن الشرط لا يكون إلا بأمر معدوم مستقبل وأن جزاءه أيضا كذلك وأنها أمور عشرة في لسان العرب كذلك كما تقدم تقريره أن لا يصح تعليق صفات الله تعالى نحو علمه وإرادته فإن الله تعالى في الأزل بكل شيء عليم وقدر كل شيء في الأزل من جميع الموجودات الممكنات والمعدومات ويستحيل أن يتأخر شيء من ذلك عن الأزل فيستحيل تعليقه حينئذ وجعله شرطا لكنه ورد في كتاب الله تعالى معلقا على الشرط كقوله عز وجل { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } { إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها } و { إن يشأ يذهبكم ويأت بآخرين } و { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم } وفي السنة { من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين } ومن ها هنا شرطية فإن قلت : كيف تورد السؤال بلو مع أنك قد قدمت أن من خصائصها أنها تدخل على الماضي فلا يكون الاستقبال فيها لازما حتى يرد بها السؤال ؟ قلت من خصائصها أنها قد تدخل على الماضي ولكن لا يمنع دخولها على المستقبل .

ونحن نعلم ها هنا أنها إنما دخلت على المستقبل من جهة الواقع فإنه تعالى لو شاء جعلنا ملائكة لكنا ملائكة لكنا لسنا ملائكة فعلمنا أن هذا ليس ماضيا وكذلك بقية الآيات فالسؤال بها لازم .

والجواب عنه أن تعلق إرادة الله تعالى وعلمه بالأشياء قسمان : قسم واقع وقسم مقدر مفروض ليس واقعا فالواقع هو أزلي لا يمكن جعل شيء منه شرطا ألبتة والمقدر هو الذي جعل [ ص: 94 ] شرطا وتقدير الكلام في هذه المواضع متى فرض إرادتنا أن نردكم ملائكة كنتم ملائكة ومتى فرض إرادتنا لهداية نفس اهتدت ومتى فرض إرادتنا لكون شيء كان ومتى فرض إرادتنا لإهلاك قرية وكان السبب في إهلاكها أمر مترفيها فيفسقون ومتى فرض علم الله تعالى بأن فيكم خيرا آتاكم خيرا مما أخذ منكم وكذلك بقية هذه النظائر فجميع المعلق عليه من تعلق صفات الله تعالى إنما هو مفروض مقدر لا أنه واقع والفرض والتقدير أمر متوقع في المستقبل ليس أزليا فلذلك حسن التعليق فيه على الشرط فإن قلت بل هذا التقدير أزلي والله تعالى يعلم في الأزل أنه لو شاء لجعلنا ملائكة ولو شاء هداية نفس لاهتدت والعلم تابع للمعلوم فيكون العلم بهذا التقدير فرع تحقق التقدير لكن العلم بذلك أزلي فيكون التقدير أزليا فيمتنع تعليقه قلت : الواقع في الأزل هو العلم بارتباط الهداية والعلم بارتباط الشيء بالشيء لا يقتضي وقوع ذينك الشيئين ولا أحدهما لأن الله تعالى يعلم في الأزل ارتباط الري بالشرب والشبع بالأكل فعلمه تعالى بهذه الأشياء أزلي .

وهذه الأشياء حادثة كذلك ها هنا يعلم الله سبحانه في الأزل ارتباط الهداية بفرض إرادة الله تعالى لها فيكون العلم بذلك قديما والمعلوم وهو هذان الأمران حادثان ومعنى قولنا العلم تابع للمعلوم أي تابع لتقديره في زمانه ماضيا كان أو حاضرا أو مستقبلا فنعلم أن القيامة تقوم فعلمنا حاضر ومعلومنا مستقبل لكن المتقدم على علمنا بالرتبة العقلية هو تقدير المعلوم في زمانه لا ذات المعلوم فتأمل ذلك وأثبته أيضا في قولهم الخبر تابع للمخبر بهذا التفسير فإن قلت : الارتباط بين إرادة الله تعالى الهداية والهداية أزلي فإن هذا الارتباط واجب عقلا والواجبات العقلية لا تقبل العدم وما لا يقبل العدم أزلي فالارتباط أزلي وقد جعل شرطا مع أنه أزلي قلت : لم يجعل الارتباط شرطا بل المرتبط به خاصة وهو [ ص: 95 ] المشيئة المفروضة أما الارتباط بها فلم يجعل شرطا أصلا ولا تنافي بين قدم الارتباط وحدوث المرتبط والمرتبط به ألا ترى أن الارتباط واقع بين الأجسام والأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وأن هذا الارتباط واجب عقلا لا يقبل العدم ومع ذلك فالأجسام والأعراض حادثة وسره أن الارتباط حكم ونسبة وإضافة لا تقبل الوجود الخارجي بل الذهني فقط كالإمكان والاستحالة حكمان أزليان والممكنات حادثة .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال : ( المسألة الرابعة مقتضى ما تقدم من أن الشرط لا يكون إلا بأمر معدوم مستقبل وأن جزاءه أيضا كذلك إلى آخر الأمور المشترطة التي أوردها )

قلت : قد تقدم أن حروف الشرط تدخل على غير المستقبل بخلاف سائر ما ذكر مع الشرط .

قال : ( فإن قلت : كيف تورد السؤال بلو مع أنك قد قدمت أن من خصائصها أنها تدخل على الماضي فلا يكون الاستقبال فيها لازما حتى يرد بها السؤال قال : قلت : من خصائصها أنها قد تدخل على الماضي ولكن لا يمنع دخولها على المستقبل ونحن نعلم ها هنا أنها إنما دخلت على المستقبل من جهة الواقع فإنه تعالى لو شاء جعلنا ملائكة لكنا ملائكة لكنا لسنا ملائكة فعلمنا أن هذا ليس ماضيا ) قلت : جوابه هذا ليس بصحيح فإن مشيئة الله تعالى لا يصح أن تكون حادثة وإنما دخلت لو على ما لا يصح أن يكون مستقبلا وحمل المشيئة على وقوع متعلقها وهو المراد الحادث خلاف الظاهر فالسؤال وارد .

قال : ( والجواب عنه أن تعلق إرادة الله تعالى وعلمه بالأشياء قسمان : قسم واقع وقسم مقدر مفروض ليس واقعا فالواقع هو أزلي لا يمكن جعل شيء منه شرطا ألبتة ) .

قلت : ما قاله ليس بصحيح بل يمكن جعل الأزلي شرطا وإنما حمله على ما قاله دعواه أن إن لا تدخل إلا على المستقبل وقد تقدم أنه يجوز دخولها على غير المستقبل فإنها لمطلق الربط وقد سبق من كلامه ما يشعر بتسليمه أنها لمطلق الربط .

قال : ( والمقدر هو الذي جعل [ ص: 94 ] شرطا وتقدير الكلام في هذه المواضع متى فرض إرادتنا أن نردكم ملائكة كنتم ملائكة ومتى فرض إرادتنا لهداية نفس اهتدت ومتى فرض إرادتنا لكون شيء كان ومتى فرض إرادتنا لإهلاك قرية كان السبب في إهلاكها أمر مترفيها فيفسقون . ومتى فرض علم الله تعالى بأن فيكم خيرا آتاكم خيرا مما أخذ منكم وكذلك بقية هذه النظائر فجميع المعلق عليه من تعلق صفات الله تعالى إنما هو مفروض مقدر لا أنه واقع والفرض والتقدير أمر متوقع في المستقبل ليس أزليا فلذلك حسن التعليق فيه على الشرط ) قلت : هذا الفرض والتقدير الذي زعم لا يخلو أن يريد أن الله تعالى هو فارض ذلك الفرض أو يريد أن غيره هو فارض ذلك الفرض فإن أراد الأول فذلك لا يجوز في حق الله تعالى لأنه يستلزم الجهل بالواقع وإن أراد الثاني فلا يصح تأويل مشيئة الله تعالى بمشيئة غيره وبالجملة فكلامه هنا خطأ صراح .

قال : ( فإن قلت : بل هذا التقدير أزلي إلى آخر جوابه ) قلت : وهذا السؤال مني على جواز مثل هذا التقدير على الله وقد سبق أنه لا يجوز فالسؤال ساقط وجوابه كذلك .

قال : ( فإن قلت : الارتباط بين إرادة الله تعالى الهداية والهداية أزلي إلى آخر السؤال ) قلت : السؤال وارد قال : ( قلت : لم يجعل الارتباط شرطا بل المرتبط به خاصة وهو المشيئة المفروضة أما الارتباط بها فلم يجعل شرطا أصلا ) .

قلت : [ ص: 95 ] المشيئة المفروضة لا تصح على الله تعالى فجوابه باطل .

قال : ( ولا تنافي بين قدم الارتباط وحدوث المرتبط والمرتبطة ) قلت : بل ذلك متناف فإن الحادث لا يتصف بالقديم كما أن القديم لا يتصف بالحادث .

قال : ( ألا ترى أن الارتباط واقع بين الأجسام والأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ) قلت : ما قاله في هذا الفصل مبني على الوجود الذهني وأنه غير العلم وهو من الأمور المشكوك فيها وقوله كالإمكان والاستحالة حكمان أزليان لا يصح فإنه لا يخلو أن يكونا ذهنيين أو خارجيين فإن كانا ذهنيين فكيف يصح أن يكونا أزليين ولا ذهن في الأزل وإن أراد خارجيين فكيف يصح والمستحيل لا بد أن يكون معدوما فوصفه كذلك والإمكان ليس بأزلي فوصفه كذلك إلا أن يريد أنهما معلومان لله فيعود الأمر إلى أنهما متعلقان لعلمه تعالى وليس ذلك مما نحن فيه والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الرابعة ) قد تقدم في الوصل الأول أن أدوات الشرط كما تدخل على المستقبل تدخل على غير المستقبل بخلاف أنواع الطلب الثمانية وعليه فيصح تعليق صفات الله تعالى نحو علمه وإرادته وإن كان الله تعالى في الأزل بكل شيء عليم وقدر كل شيء في الأزل من جميع الموجودات الممكنات والمعدومات ويستحيل أن يتأخر شيء من ذلك عن الأزل ولا داعي لتكلف الجواب عن مثل قوله تعالى { إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها } { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين } { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم } وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم { من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين } فتنبه .




الخدمات العلمية