الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر

                                                                                                                                                                                                        5260 حدثنا إسماعيل بن عبد الله قال حدثني مالك بن أنس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر فجاءهم آت فقال إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر ) أي تصنع أو تتخذ ، وذكر فيه حديث أنس من رواية إسحاق بن أبي طلحة عنه أتم سياقا من رواية ثابت عنه المتقدمة في الباب قبله .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( كنت أسقي أبا عبيدة ) هو ابن الجراح ، ( وأبا طلحة ) هو زيد بن سهل زوج أم سليم أم أنس ، ( وأبي بن كعب ) ، كذا اقتصر في هذه الرواية على هؤلاء الثلاثة ، فأما أبو طلحة فلكون القصة كانت في منزله كما مضى في التفسير من طريق ثابت عن أنس " كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة " وأما أبو عبيدة فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بينه وبين أبي طلحة كما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أنس ، وأما أبي بن كعب فكان كبير الأنصار وعالمهم . ووقع في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس في تفسير المائدة " إني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا " كذا وقع بالإبهام ، وسمى في رواية مسلم منهم أبا أيوب ، وسيأتي بعد أبواب من رواية هشام عن قتادة عن أنس " إني كنت لأسقي أبا طلحة وأبا دجانة وسهيل ابن بيضاء " وأبو دجانة بضم الدال المهملة وتخفيف الجيم وبعد الألف نون اسمه سماك بن خرشة بمعجمتين بينهما راء مفتوحات ، ولمسلم من طريق سعيد عن قتادة نحوه وسمى فيهم معاذ بن جبل ، ولأحمد عن يحيى القطان عن حميد عن أنس " كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل ابن بيضاء ونفرا من الصحابة عند أبي طلحة " ووقع عند عبد الرزاق عن معمر بن ثابت وقتادة وغيرهما عن أنس أن القوم كانوا أحد عشر رجلا ، وقد حصل من الطرق التي أوردتها تسمية سبعة منهم ، وأبهمهم في رواية سليمان التيمي عن أنس وهي في هذا الباب ولفظه " كنت قائما على الحي أسقيهم عمومتي " وقوله عمومتي في موضع خفض على البدل من قوله : " الحي " وأطلق عليهم عمومته لأنهم كانوا أسن منه ولأن أكثرهم من الأنصار . ومن المستغربات ما أورده ابن مردويه في تفسيره من طريق عيسى بن طهمان عن أنس أن أبا بكر وعمر [ ص: 41 ] كانا فيهم ، وهو منكر مع نظافة سنده ، وما أظنه إلا غلطا . وقد أخرج أبو نعيم في " الحلية " في ترجمة شعبة من حديث عائشة قالت : " حرم أبو بكر الخمر على نفسه فلم يشربها في جاهلية ولا إسلام " ويحتمل إن كان محفوظا أن يكون أبو بكر وعمر زارا أبا طلحة في ذلك اليوم ولم يشربا معهم . ثم وجدت عند البزار من وجه آخر عن أنس قال : " كنت ساقي القوم ، وكان في القوم رجل يقال له أبو بكر ، فلما شرب قال : " تحيي بالسلامة أم بكر " الأبيات ، فدخل علينا رجل من المسلمين فقال : قد نزل تحريم الخمر " الحديث . وأبو بكر هذا يقال له ابن شغوب ، فظن بعضهم أنه أبو بكر الصديق ، وليس كذلك ، لكن قرينة ذكر عمر تدل على عدم الغلط في وصف الصديق ، فحصلنا تسمية عشرة ، وقد قدمت في غزوة بدر من المغازي ترجمة أبي بكر بن شغوب المذكور . وفي " كتاب مكة للفاكهي " من طريق مرسل ما يشيد ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( من فضيخ زهو وتمر ) أما الفضيخ فهو بفاء وضاد معجمتين وزن عظيم : اسم للبسر إذا شدخ ونبذ ، وأما الزهو فبفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو : وهو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب . وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والرطب ، كما يطلق على خليط البسر والتمر ، وكما يطلق على البسر وحده وعلى التمر وحده كما في الرواية التي آخر الباب . وعند أحمد من طريق قتادة عن أنس " وما خمرهم يومئذ إلا البسر والتمر مخلوطين " ووقع عند مسلم من طريق قتادة عن أنس أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فجاءهم آت ) لم أقف على اسمه ، ووقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد بعد قوله " أسقيهم " : " حتى كاد الشراب يأخذ فيهم " ولابن مردويه " حتى أسرعت فيهم " ولابن أبي عاصم " حتى مالت رءوسهم ، فدخل داخل " ومضى في المظالم من طريق ثابت عن أنس " فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناديا فنادى " ولمسلم من هذا الوجه " فإذا مناد ينادي أن الخمر قد حرمت " وله من رواية سعيد عن قتادة عن أنس نحوه وزاد " فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت " ومضى في التفسير من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس بلفظ " إذ جاء رجل فقال : هل بلغكم الخبر ؟ قالوا : وما ذاك ؟ قال : قد حرمت الخمر " وهذا الرجل يحتمل أن يكون هو المنادي ، ويحتمل أن يكون غيره سمع المنادي فدخل إليهم فأخبرهم . وقد أخرج ابن مردويه من طريق بكر بن عبد الله عن أنس قال " لما حرمت الخمر وحلف علي أناس من أصحابي وهي بين أيديهم ، فضربتها برجلي وقلت : نزل تحريم الخمر " فيحتمل أن يكون أنس خرج فاستخبر الرجل ، لكن أخرجه من وجه آخر أن الرجل قام على الباب فذكر لهم تحريمها ، ومن وجه آخر " أتانا فلان من عند نبينا فقال : قد حرمت الخمر ، قلنا : ما تقول ؟ فقال : سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن عنده أتيتكم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فقال أبو طلحة : قم يا أنس ، فهرقها ) بفتح الهاء وكسر الراء وسكون القاف ، والأصل أرقها ، فأبدلت الهمزة هاء ، وكذا قوله : " فهرقتها " وقد تستعمل هذه الكلمة بالهمزة والهاء معا وهو نادر ، وقد تقدم بسطه في الطهارة . ووقع في رواية ثابت عن أنس في التفسير بلفظ " فأرقها " ، ومن رواية عبد العزيز بن صهيب " فقالوا أرق هذه القلال يا أنس " وهو محمول على أن المخاطب له بذلك أبو طلحة ، ورضي الباقون بذلك فنسب الأمر بالإراقة إليهم جميعا . ووقع في الرواية الثانية في الباب " أكفئها " بكسر الفاء مهموز بمعنى أرقها ، وأصل الإكفاء الإمالة . ووقع في " باب إجازة خبر الواحد " من رواية أخرى عن مالك في هذا الحديث " قم إلى هذه الجرار فاكسرها ، قال أنس : فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى انكسرت " وهذا لا ينافي الروايات الأخرى بل يجمع بأنه أراقها وكسر أوانيها ، أو أراق بعضا وكسر بعضا . وقد ذكر ابن عبد البر أن إسحاق بن أبي [ ص: 42 ] طلحة تفرد عن أنس بذكر الكسر ، وأن ثابتا وعبد العزيز بن صهيب وحميدا وعد جماعة من الثقات رووا الحديث بتمامه عن أنس منهم من طوله ومنهم من اختصره ، فلم يذكروا إلا إراقتها . والمهراس بكسر الميم وسكون الهاء وآخره مهملة إناء يتخذ من صخر وينقر وقد يكون كبيرا كالحوض وقد يكون صغيرا بحيث يتأتى الكسر به ، وكأنه لم يحضره ما يكسر به غيره ، أو كسر بآلة المهراس التي يدق بها فيه كالهاون فأطلق اسمه عليها مجازا . ووقع في رواية حميد عن أنس عند أحمد " فوالله ما قالوا حتى ننظر ونسأل " وفي رواية عبد العزيز بن صهيب في التفسير " فوالله ما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل " ووقع في المظالم " فجرت في سكك المدينة " أي طرقها ، وفيه إشارة إلى توارد من كانت عنده من المسلمين على إراقتها حتى جرت في الأزقة من كثرتها . قال القرطبي تمسك بهذه الزيادة بعض من قال إن الخمر المتخذة من غير العنب ليست نجسة لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التخلي في الطرق ، فلو كانت نجسة ما أقرهم على إراقتها في الطرقات حتى تجري . والجواب أن القصد بالإراقة كان لإشاعة تحريمها ، فإذا اشتهر ذلك كان أبلغ فتحتمل أخف المفسدتين لحصول المصلحة العظيمة الحاصلة من الاشتهار ، ويحتمل أنها إنما أريقت في الطرق المنحدرة بحيث تنصب إلى الأشربة والحشوش أو الأودية فتستهلك فيها ، ويؤيده ما أخرجه ابن مردويه من حديث جابر بسند جيد في قصة صب الخمر قال : " فانصبت حتى استنقعت في بطن الوادي " . والتمسك بعموم الأمر باجتنابها كاف في القول بنجاستها .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية